مبارك حسني
شعراء الفرنسية العالميّون يرحلون تباعا. والتحق مؤخرا جاك ريضا بالكبار إيف بونفوا وميشيل دوكي وفيليب جاكوتي. بعد قرابة قرن من الحياة، ونصف قرن من النشر، بدأه بديوان "أمين"، الذي صدره بقصيدة "موت شاعر"، يقول فيها: "يحلم أحياناً بأن إلهاً عالماً/ تقديراً لما سيأتي من احتضارٍ/ سيؤسس له اسماً في خلود الكتب/ لكنه مشدود مرغمٌ جهة أسلافه الدنيئين /جاهل بفن النار، معزول في الكهف/ سيموت بنفس موت الكلمات والنجوم والوحوش".
هي منافحةٌ تراجيديةٌ تضع الموت في قعر موج الحياة، وتمنح الطابع المأساوي لجميع شعره الذي سينثره في ما بعد، هو الذي نشر أكثر من مئة كتاب بتواتر ما بين الشعر والنثر. لكن لا توجد بينها أية رواية. "لا أعرف اختلاق الحكايات، فأنا لا أومن إلا بما عشته".
دفاعاً عن الشعر الموزون
وحين أعادت دار غاليمار نشر الديوان من ضمن ثلاثية، كتب في مقدمته جملة مضيئة لا تحتمل سوى الدهشة:"من نحن حتى نمنح وجوداً لغبار الكلمات". وفي نعييها على صفحة المختفين، كتب الناقد الأدبي في ملحق الأدب لجريدة لوموند :" تحدث جاك ريضا وهو في سن التسعين عن اللا نضج الذي عقَّد سيرورة وجوده، ومستلهماً مفهوم الفوضى من رامبو، الذي في نظره هو الوضع الطبيعي للشعراء".
لكنه أمرٌ غريبٌ أن يستعير مفهوم الفوضى، التي تعني هنا انعدام الانتظام. فقد دشن دخوله الى الشعر في بدايته، بشِعرٍ حرٍ، ضداً على التيار السريالي وتيار الالتزام والنزعة الإنسانية، تيارات كانت تسود في النصف الأول من القرن العشرين. كانت فوضاه الشعرية تعاكس كل ما اعتبر حينها فوضى خلاقة وثورية وشكلانية. تلك التي جعلت الشعر لا يُقتنى منه سوى مئة نسخة، حسب قوله. وهو ما دفعه في مرحلة ثانية، الى أن يعيد الشعر إلى خصوصيته الأولى، فدافع عن الوزن والإيقاع واللغة، كثلاثية موَّحدة في الشكل الكلاسيكي للقصيدة. يقول :" بعد قرونٍ من الاستقرار، لم يستغرق الأمر سوى حوالي ثلاثين عاماً كي تترسخ الفوضى في الشعر، فظهرت العديد من الأشكال، التي انخرطت أكثرها ديناميكية في مأزق الشكلية الفردية» حسب المجلة الأدبية " في انتظار نادو".
الشِّعر وبِركة الضواحي
اشتهر جاك ريضا بتجواله اللانهائي في باريس، مشاءً حالماً، مشَبِّهاً نفسه بهوائيٍّ تسيح به المدينة لترصد جميع أحوالها. فحوّل أحياءها ومقاطعاتها وساحاتها وأزقتها الى شخصيات نابضةٍ بالحياة. ساح بهدف رسمها في قصائد وفي صفحات وصفٍ دقيقة تمنح لها وجوهاً غير معروفة. هي عشرات من الصور منثورة في عشرات الكتب، تشبه الصور الفوتوغرافية لمقطع من جدار، أو باب مبنى، أو بعض الأحجار المرصوفة بالحصى، من حيث " ينهض الشبح المراوغ، الذي لا يمكن وصفه، له جوهرٌ خاصٌّ هو الذي يحرك شِعري".
يحركه ويجعله يلتقي بالعجيب، الذي يصل التقاطه حدّ الإعجاز، ما يسميه الشعور بالعجيب في اليومي. هو تيه مع فقدان واعٍ ومنتبهٍ للبوصلة، يقود إلى ما لا يُبحث عنه، هو شيء ما يتم اللقاء به، في جغرافيا الأزقة، بفضل هذا التيه تحديدا. وباريس تمنح هذا الإمكانية، حين يستقل الشاعر الباص بدون وجهة معينة، ليجد نفسه في مكان لم يكن في الحسبان بدايةً، لكنه مقرَّرٌ بالرغم من ذلك. بل وقد يسير التيه إلى أحشاء المدينة، والى امتداداتها، في ما أطلق عليه بِركة الضواحي. وهذه الأخيرة تجربة شعرية خاصة، تندرج في استدراج ما هو واقعي إلى رحابة القصيد.
"لقد أمضيت الكثير من الوقت في استكشاف تشعبات الضواحي العملاقة [..] هي تجربة أساسية بالنسبة لي، تبلغ ذروتها في اللحظة التي لا يتحقق فيها الضياع طوبوغرافياً فحسب، بل عندما تُفتقَد الرؤية للذات، فيصبح الشاعر نوعاً من الشظايا، التي تظل واعيةً، بالرغم من ذلك، في هذا الامتداد الذي تسافر عبره". حينها تصير التجربة الشعرية ميتافيزيقية، لغياب الساكنة في هذه الأماكن الممتدة.
موسيقى الجاز والشعر
تجربة شعرية أخرى امتاز بها جاك ريضا. هي اعتبار موسيقي الجاز، من دون غيرها، شكلَ تعبير في مقام الشعر، فخصَّهما في إبداعه بذات الأهمية . كتب في الجاز لمدة خمسين سنة في مجلة الجاز الفرنسية المتخصصة، لأنه لا يحبه فقط، بل لأن "موسيقى الجاز هي الوحيدة التي يمكن أن تعطيني الشيء الذي يشكلها، أي التأرجح، الذي هو تحوُّل حركة المشي إلى رقصٍ [..] هل تبرز قدمي وهي تدعم بشكل خاص الإيقاع، كما لو كنت أحاول التأرجح؟..."
وهي غرابة ثانية. فكيف للإيقاع التجريدي لموسيقى نخبوية أن يتوافق مع الإيقاع الشعري للقصيدة "المفهومة والمقروءة" من لدن الكل، حيث لا غموض؟ هنا تكمن خصوصية الشاعر الذي يثق في قدراته الخلَّاقة, بلا تنازل ولا انحياز سوى إلى القصيدة التي تنبع من كل تجربة يخوضها. يقول بأن الجاز "فيه مظهر من مظاهر الثالوث: الإيقاع القوي، والإيقاع الضعيف، والتزامن". أي تلك الأسس المُهمة التي تؤسس القصيدة، الايقاعات والتزامن. في نعييها لجاك ريضا.
جدٌ يصنع دراجات
إيقاعات تعود إلى زمن الطفولة، حين كان يزور محل جده صانع دراجاتٍ هوائيةٍ. منها استلهم إحدى أجمل قصائد التي تتغنى ببساطة الأشياء التي تحيط بنا، وهي قصيدة الدرَّاجة، التي تدرَّس في كل مدارس فرنسا. نقتطف منها:"وها هي الدراجة تهتز، يبدو أنها تسمع / لو أردنا أن نُمْسك بها، ما دام لا شيء يعيقنا / ستخمن ذلك قبل أن نلمس المقود / اللامع، فنراها تنطلق بسرعة فائقة/ تعبر النافذة المترنحة نصف الغارقة في الشمس/ ترمي في نار المساء عناقيد شررٍ / تحَوِّل عجلتيها في الحال إلى نجمين منصهرين". كل قصائد الشاعر الذي رحل يوم ثلاثين سبتمبر، غنائياتٌ عميقةٌ للبسيط المتعالي.