الفنُّ المقاوم نشاطٌ جماليٌّ يكشف اللافني

ثقافة 2024/10/21
...

هو ابن الجنوب اللبناني ولد في قرية عديسة التابعة إلى النبطية، في السنة التي اشتعلت فيها الحرائق في لبنان 1975*، كانت البلاد غليان دم وبيادر جثث تسدّ الشوارع، كانت رائحة الموج التي تلطم صخور الروشة فاسدة برائحة البارود. تواً ما زال حليب الأم ممزوجاً بالشهقة الأولى للطفل واندلعت نيران الحرب الأهلية. فكانت أحداثها مصدر إلهامه منذ ذلك التاريخ لم تغادره ذاكرة الحروب التي ظلت تتوالى منذ عقود، في الجنوب وبيروت، والضاحية، سلسلة حروب تتناسل كان فيها الفن التشكيليّ شاهداً نابضاً، حياً لأبعاد المأساة اللبنانية الوجوديّة.

هي الحرب يا أيمن! وجوهها غير ثابتة، سائلة ومتحولة، ما يطفو منها على السطح المتفجر في الراهن، هي ترددات خراب الأبنية في الضاحية، لقد مثلتها في هيئاتها المأتمية بموهبتك الفذّة، فاخترقت الجدران برؤية صادمة مهشمة متآكلة بخليط من الألوان المتلاطمة.

هذا الموت اللامعقول، والخرافة والجنون، جنون العنف والتدمير والقتل بوحشية جنود الاحتلال الصهيوني، لم يغرق فلسطين وغزّة بالدم، انما أغرق لبنان بالدم. التاريخ سيروي عن جداريات حرب حقيقية لم يرسمها فنان، جدرايات (غورنيكا) جديدة، لا (غورنيكا) بيكاسو في الحرب الأهلية الأسبانية، هنا وسط الكوابيس المرعبة يولد الفن إذ تسوره الدماء.

أعمال ايمن بعلبكي فيها انتقالات من التجريد إلى المرئي والملموس، إلى الأكثر واقعية وفاعلية في التعبير ليهتف بصوت مختنق بالدخان: كفى.. كفى! إلى أين سيمتد العنف؟ إلى متى تستمر الجريمة؟ 

في أعماله الأخيرة تبدو السماء مكوّرة كالتنانير، الأحمر فيها شواظ حريق يشعل الأديرة والمساجد، القمر في الليل يأسره الموت يتوارى خلف أكوام الرماد، لكنها الحرب، وأبناء بيروت والضاحية في انتظار المخاض الطويل يجيء إليهم بنسل جليل .

 بعلبكي يرى في الفن المقاوم نشاطاً جمالياً يكشف اللافنّي ويعرّي خطاب الحروب من لبوسه، والحرب فعل تدمير، تدمير كل شيء، البشر وما بنوه، التاريخ والحضارة، الحياة والذاكرة،، كل الحروب التي شهدها الإنسان، أو التي شارك فيها، هي ضدّه، لأنها أساساً اعتداء عليه، فيها يقاوم الفن معاني القتل ودوافع التدمير، يضيء الحقيقي أياً كان، في ألهنا والهناك، في الأنا وفي الآخر، فالحقيقي هو أولاً وقبل كل شيء حق في الحياة، وعلى حد هذا الحق، وهو في تاريخنا الحديث صراعي، ينسج الفن معانيه وكذلك الثقافة تنتج قيمها، في هذه المعاني والقيم، في قاعها، في العمق منها، مقاومة للعنف والتوحش، نحو الحرية ومغادرة زمن التخلف.

ليست مقاومة الحرب دعوة إلى حرب أخرى، ولا قتلاً مقابل قتل، لآن المقاومة ليست أساساً تناحر قبائل، بل هي دفاع عن حق وحياة، وهي فنياً وثقافياُ فضح أيديولوجية الحرب، بعلبكي جعل من هذه الرؤى مواضيع متكررة في أعماله، يجمع بين الرسم والنحت والتركيب في إثارة الأسئلة: كيف يمكن للمرء أن يعيش في مساحة مثقلة بالحروب والموت، هذا الهوس بالدمار الذي يرفع هنا إلى مرتبة المجاز يغدو شخصية بحد ذاته، هو ما أرسى سمعة أيمن كرسام للدمار المعاصر، المدن التي ترسمها فرشاته وخطوطه تظهر كأنها ضرب من اللامكان. الدمار يحتل اللوحة على نحو لا يتداخل فيه مع حضوره أي موضوع آخر. 

وعليه فإن القول بأن للفن خطابه المقاوم لا يعني القول بثقافة تحوّل الضحية إلى قاتل، أو الضحية إلى جلاد، وبالتالي فإنها لا تعني ثقافة ثنائية استبدالية، بها يحل طرف مكان آخر، بل يعني فن يفكك خطابه منطق القاتل, ليكشف أن خيط الدم الرفيع سيكون حين يستمر النزيف، بركاً لا يعرف الدم الفواصل بين روافده المختلفة. هذا ما يريد أن يقوله لنا أيمن بعلبكي: الإبداع بوصفه شكلاً من أشكال البقاء، أم بوصفه اِظهاراً للقوة في المحنة، وتجاوزاً لها؟

الفن نتاج يواكب التاريخ، ولغة تعبيرية يتوسلها الفنان من أجل تحقيق حضوره في هذا التاريخ، إنها مظهر من مظاهر نموه المعرفي بأكثر من وسيلة من وسائل 

التعبير.