صادق الطريحي
زَيْتٌ لتدوينِ المَلاحمِ في السّوادِ، لطينِها المُترسّبِ النّهريّ، للنّخلِ الجليلِ، لكاتبِ الوحي الأمينِ، يقصُّ أحسنَ ما يقولُ، يُأسطرُ الشّعبيَّ والأمثالَ في النّصّ الحديثِ، لسُورِ أوروكَ المَتينِ، لقلقميشَ، لأمّهِ العَذرا البتولِ، لنصّهِ المخرومِ، للنّدّ الصّديق، لصَلبهِ المكتوبِ في آي النّصوصِ، بكاتمٍ، أو حادثٍ، أو سَكتةٍ في لهجةِ المُستشفياتِ، لعُشبةٍ ضاعتْ هناكْ!
ما زلتُ أبحثُ عنكِ، لستِ بعيدةً، ما زلتُ ألمسُ شَعرَكَ الكُوفيَّ، لستِ بعيدةً، ما زالّ صوتُك ساريًا في لهجةِ الأطفالِ، لستِ بعيدةً، ما زلتُ أقرأ باسْمكِ المهموزِ، لستِ بعيدةً.
لكنّني من فرطِ بحثي قد غفوتُ، غفوتُ، إذْ سَرقَ الرّعاةُ سوارَ سيّدةِ النّجاةِ، حبيبتي، وصديقتي، وإلهتي، وحديقتي، والعُشبةَ الحمراءِ، والماءَ الفراتْ.
زَيْتٌ لعشّاقِ السّوادْ.
زَيْتٌ لتُمّوز القتيلْ.
زَيْتٌ لتأصيلِ الرّصاصْ.
زَيْتٌ لتصنيفِ التّمورِ، لقَطفِها، ولعَصْرِها، لتصيرَ أنبذةً مؤصّلةً تُباعُ وتُشترى في أبعدِ الأسواقِ، إنّ منافعَ التّوحيدِ واسعةٌ، وطيّبةٌ كقُبلةِ شاعرٍ قتلتهُ أجلافُ الجزيرةِ في السّوادْ.
كأسٌ لأحمدَ في السّماءِ وفي السّوادْ.
زَيْتٌ وأفرانٌ لتصنيعِ الزّجاجِ، لمنحهِ اللونَ المُبارَكَ في السّوادْ. زَيْتٌ لترقيقِ الزّجاجِ، لصقلهِ ليكونَ كأسًا مُترعَ التّخييلِ في يدهِ الحلالْ.
خُذْ يا حبيبَ اللهِ، كأسَكَ صادحًا، مُتأنّيا، لا تلتفتْ، فهُمُ الصّدى، واشْرَبْ معَ الشّهداء؛ كي ينسى الشّهيدُ مَرارةَ الطّعمِ البذيءِ لموتهِ! نمْ يا حبيبَ اللهِ، مِلءَ جفونكِ العَربيةِ الخضراءِ، إنّي أحرسُ الدّيوانَ، والشّهداءَ، والكلماتِ مِنْ بَطشِ الرّعاةْ.
زَيْتٌ لكأسٍ مِنْ مَعينْ.
زَيْتٌ لنبذِ رَصاصةَ النّصرِ المُبينْ.
زَيْتٌ لتوطينِ الرّعاةِ بجنّةِ السّريانِ في النّهرينِ، زَيْتٌ للولاداتِ العَقيمةِ، للقطيعِ الصّمّ، إنّي أسمعُ الأنهارَ داويةً، وداويةً هناكَ، ولا أحدْ. زَيْتٌ لديوانِ العَطاءِ، لخُطّةِ المُستثمرينَ، لجلبِهمْ، زَيْتٌ لتأميمِ الدّياراتِ التي وسْطَ المدينةِ، للإقامةِ في مَنازلِها، لترميمِ المَداخلِ، والنّقوشِ، بحرفةٍ، ومهارةٍ، حتّى اختفاءَ مَلامحي. زَيْتٌ لحملتهمْ، لشَحذِ سيوفِهمْ في فُسحةِ التّعميدِ، إنّي أسمعُ الأنهارَ ... إنّي أسمعُ الأصواتَ ... إنّي أسمعُ الأطفالَ ... زَيْتٌ للملائكةِ المقيمينَ العوامْ.
فإذا قرأتَ أو استمعتَ بحُرقةٍ لمَجلّةِ (الغَاوُونَ) فاذكرْ في الكتابِ مَلامِحي. واذكرْ ملامحَ طفلةٍ سَقطَ النّصيفُ، ولمْ تُرِدْ إسقاطهُ، فتناولتهُ، واتّقتنا باليدِ ... بأصابعٍ بيضِ الأديمِ، كأنّها مَجدُ السّوادِ بسرِّهِ المُتجدّدِ.
لكنَّ نَسّاخَ الرُّعاةِ يُغيّرُ التّوقيتَ، والتّصويرَ، والإخراجَ، إذْ لا تستطيعُ تناولَ الثّوبَ النّصيفْ.
زيتُ لترحيلِ العوامْ!
زَيْتٌ لتوطينِ الرّصاصْ.