سكونيَّة الثقافة وقلق الشعب والوطن

ثقافة 2024/10/21
...

  ياسين طه حافظ

لا أخفيكم أني أفكر بالتوقف عن الكتابة بعد أن ساء بصري حتى لم أعد أرى إلا بعسر. وحتى بتّ انتظر العملية أو يوم إنقاذ ما تبقّى منه.. ولكن لسبب ربما هو الديدن أو "السولة" أو سادية إيذاء النفس، قلت لأكتب اليوم ولغدٍ حكمه.

لا أرضى لنفسي إعلاء الاستياء والمبالغة في عدم الرضا مما يسوؤنا أو نأسف له ومنه أسفاً لا يخفى.

ففي زمن نشهد فيه جديد العلوم والصناعة ونفغر الأفواه بإزاء ضخامة وإرعاب الأسلحة الجديدة والقدرة على الفتك والتدمير، ويتكشف لنا ما يخطط للمنطقة البترولية بكاملها، ونشهد جيوشاً انتقامية وطامعة، بلغت درجة في التدريب والقدرة على الإبادة وتدمير المدن، فكأنهم أمضوا كل سني الهدوء التي مرت علينا بصنع السلاح وشراء السلاح والتدريب على السلاح وعلى التثقيف في اساليب الفتك والتدمير. أنت لا تستطيع لوم عدوك، على فعل ذلك. عليك أن تلوم نفسك، وأن تفهم العالم حولك وتتسلح وتتثقف بما يجب علماً وسلاحاً وتربية وطنية واقتصاداً ومصادر مال وتموينا ومستجدات ثقافة. أعلم جيداً أنها مخططات دولية مستقبلية، تلك التي تترصدنا ولا تخفي تهديدها،  وأعلم أن لها مستشارين ومراكز بحوث وتفاهمات دولية.. لكن هذا يوجب أن نزيد من الحيطة والاستعداد، لا باتجاه الشر وردّ الشر لكن باتجاه بناء مستقبل أغنى وأصلب ركائز ومقومات.

على خلاف حركة الثقافة في العالم إذ تتوالى الظواهر بانتظار الجديد القادم، نجدنا في حال آخر. إن أمرنا حقيقة عجب إذ يتضخم عندنا ما يبدو للعالم وللعقل، اعتيادياً ولا ضرورة للتوقف عنده.. فنحن مثلاً، ومنذ أكثر من عشرين سنة ولا أزيد، منشغلون بقصيدة النثر التي كتبها ونشرها عدد من الأوروبيين، لا في القرن التاسع عشر، كما يقال، ولكن في اوائل السابع عشر، ويوم كتب هودار لامونت: "1611- 1682" إن الأبيات الشعرية ازعاج، فالنكتب نثراً. 

يستطيع النثر أن يعبر عن كل ما تقول الاشعار المنظومة، لأنه أكثر دقة ووضوحاً ونشاطاً. فهو لا يعذب الفكر بأمور القافية والوزن، فلنتخذ قرارنا ونعطِ الجمهور أناشيد ليست شعراً..."

هو لم يكن بصدد ابتكار الشعر الحر، بل أدرك أن "الوحي" الحق في ابتكار شكل كما يحلو له. وكتب هذا الرجل الالياذة نثراً واختزلها باثنى عشر فصلاً.

إذا كان الشعر مهدداً في كل تاريخه من طرف البلاغة، فأن هذه الاخيرة لم تنتصر بشدة أكثر من انتصارها في اليوم الذي كتب فيه لا موت النشيد الذي اعطاه عنوان: "البلاغة الحرة" عن (أزمة الوعي الاوربي – بول هازار) فاختفى عنده الوزن والقافية. وهكذا لا قضية شائكة ولا استمرار كلام فيها.. هكذا المبدعون أراد نثراً فكتب نثراً! انتهى. انتقل إلى موضوع آخر لا مقالات ولا بحوث ولا اطاريح ولا مؤتمرات. 

أيضاً، وردت في بعض مجلاتنا او ترجماتنا نماذج من "الهايكو" الياباني. الهايكو يعود الى القرن الثاني عشر، أي قبل اثني عشر قرناً ظنه الناس عندنا جديداً أو من ظواهر الحداثة فتسابقوا للتجديد"!

حسناً الهايكو مقطوعة موزونة بعدد أبيات وقوافٍ. والهايكو، للعلم ليس واحداً، ولكن ثلاث مراحل أو مدارس أو اشكال. حسب نظام القوافي، وأنتم تكتبون نثراً! أكثر من هذا يظهر من يكتب هايكو مصري! ليس هذا فقط ولكن هايكو عراقي وحتى هايكو بصري... واكثر من هذا يعقد مؤتمر أو مهرجان عن شعر الهايكو، واليابان صاحبة هذا الشعر لم يعقد في تاريخها كله مؤتمر للهايكو، بل تعقد مؤتمرات للشعر الياباني هكذا السعة بإزاء هذا الضيق: حسناً أن إنساناً ذكياً انتبه فأضاف عبارة "والنص القصير" فأنقذ الحال وخفّف من التساؤل. 

ما علاقتكم أنتم بالهايكو؟ أبدعتموه؟ هل نشأ في بلادكم؟ هل انتقلتم به إلى مرحلة أخرى من التطوير؟ حسنا، اكتبوا على غرار أي شكل بلا استعراضات وكأن جديداً يفاجئ الثقافة أو يثير العالم.. والحال مشابه في الترجمة. فما أن يترجم أحد كتابا لشاعر حتى يبدأ التراكض لترجمة ما ظل منه.. وما أن يترجم كتاب  لكاتب حتى كأن لا سواه مهماً في العالم لماذا؟ هل من سبب آخر غير الفقر الثقافي والجهل بالأسماء المهمة في آداب العالم؟ ولماذا الأدب وحده لماذا تترك الدراسات التاريخية الحديثة، الفكرية، كتب الحقول المدنية الأخرى، كتب الأديان والعقائد، كتب الرحلات وكتب السيرة، وكتب الفن، عن الرسم، السينما، التصوير...؟

شخصية المترجم بما يترجم من جديد، أن يترجم لنا ما لم نعرفه: أو لم نسمع به، أو يترجم أثراً مهماً لمفكر أو أديب أو عالم تاريخ أو سياسة دولية وفن، وأن يكون المسعى لتكامل وإغناء وتطوير الثقافة. واقع الحال في النشر أو في مناهج الأكاديميات ودراساتها أن الثقافة تدور على نفسها، فلا جديد إلا عنوانات واسماء، والنادر منها للأسف لا يشكل ظاهره. هذا في الأدب ومثله في حقول الثقافة، هي تلك السكونية والتكرار، وهي تلك الدراسة التي لا جديد فيها والتي تعتمد مصادر مكررة وموضوعات مكررة، قليل جداً جديدها والفلسفة تعطينا قطرات الانقاذ من الموت ودراسات العقائد هي وجديدها القليل منكمش من الخوف والحذر. أظننا جميعاً غير مقتنعين بالمتوافر وسط عصر صاخب بالحيوية والمستجدات أدباً وعلماً وصناعة وأفكارا وبرامج. نعم لا يمكن أن نقتنع بثقافة راكدة وفضاء لا يتجدد هواؤه. مناهج الاكاديميات الادبية والإنسانية الاخرى تحتاج الى حركة تجديد ومفردات درس حديثة تغنيها وتمنحها روح وحيوية عصر متغيّر. وأن يشمل هذا النشاطاتِ الاجتماعية ونوع الندوات والمؤتمرات، لا الرتيبة التي مللنا من موضوعاتها ومن محدودية آفاقها والتي نادراً ما تجدي.

نريد مؤتمرات، نريد مهرجانات ولقاءات وراءها نتائج عملية ملموسة، ولا تكون لهواً. نريدها فعلاً ايجابياً لتحديث ثقافة وبناء مدنية. وهذا مطلب كلنا نريده ولا خلاف عليه..

أقدر كل التقدير عمل من يعملون ويسهمون، فهو هذا مدى ما يتيسر لهم، والممارسة موضع تقدير. ولكني مثلهم طموحٌ لثقافة فاعلة أكثر خصباً ولظروف تساعد على التقدم. هذا الحال الثقافي، موضوعات ومستوى، لا ننتظر منه غير أن يكرر ويعيد، والجديد القليل اذا ما وجد فهو اما غير مفهوم وأما هو خائف حذر، إذن لا منافسة ثقافية مع العالم ولا حضور يشار له، ولا استجابة لفقر شعب ولا توافر ضرورات حياة مدنية وسيظل الناس يعيشون كما في الحروب بحصص تموينية وبرعاية اجتماعية كما في الكوارث، وصحفيوه ومثقفوه ينتظرون منحة عون سنوية. هي أعمال طيبة لكنها للأزمنة الاستثناء أزمنة الحروب والكوارث لا للأزمنة الطبيعية الآمنة، إذ يعيش الناس كما تعيش الشعوب التي منّ الله عليها بنعمة شاءها تكون لعباده رزقاً.. الأحوال غير الطبيعية لها زمن وتنتهي لتستقر البلاد ويستقر ويتحسن حال الناس ومستوى عيشهم. نحن لا نتمنى مطلباً صعباً ولا مستحيلاً على بلد بدأ يستقر وفيه ثراء.