النقاش العمومي بين العلميَّة والأيديولوجيا

ثقافة 2024/10/21
...

  حازم رعد


تجربة النقاش مع الذوات مهمة للغاية، حيث التفاهم على رؤى وتصورات تعود بالفائدة على أطراف النقاش جميعاً، فهو النشاط الذي ينمو فيه العقل ويتطور في مراتب الوعي، كما أنه من أهم أدوات فعل التواصل بين الناس، إذ عدَّه بعض الفلاسفة القناة الأهم في مطارحة الموضوعات الإشكالية، والوصول لنتائج مرضية، كما وأن سمة المجتمعات المتحضرة السعي لحل مشكلاتها وإيجاد معالجات مناسبة للصعوبات التي تتعرض لها. فاللجوء للنقاش هو البناء والهادف، والوجه الثاني لأمرهم شورى بينهم، أو شاورهم في الأمر، فكل قضية مهما كانت عسيرة وصعبة تكون سهلة في رواق النقاش العمومي. فمجموعة من العقول حينما تبدي وجهات نظرها في قضية أو اشكالية تتذلل وتسهل وتجد لها حلاً يناسبها. ولكن أي نقاش ذاك هو القائم على وحدة الموضوع، ويكون تناول المسائل فيه بعلمية واستحضار الدليل والحجة مع كل فكرة تطرح على طاولة النقاش، وأن يأخذ الاطراف فرصهم المتكافئة لطرح ارائهم وتوجيه النقد بحرية تامة بعيداً عن التحيز. 

ولكن من خلال النقاشات التي تدور معي ومع غيري، بت أدرك أن ما يحرك مشاعر الناس هو "الأيديولوجيا" التي يشعر بالانتماء لها، أما أن يكون النقاش بحدود الاشتراطات العلمية والموضوعية فهو شبه منعدم، حتى أني تيقنت أن خوض النقاش بأبعاد "العقدية والأيديولوجية" مضيعة للوقت ومجلبة للتعب وتورث الضغائن في نفوس الداخلين حلبته، ولا يمكن في هذه النقاشات أن تأخذ فرصتك كاملة أو أن تكون متكافئة، لأنها بصريح العبارة تشبه مصارعة ثيران لا يخرج منها سوى غبار كثيف ناجم عن الأرضية التي يجري عليها النقاش "صياح وتشنج وحنق شديد، وذاك يحسبك على هذا الطرف وآخر يظنك مع الطرف المقابل وهلم جراً" والنتيجة حنجرة ملتهبة وأوداج منفوخة ومشاعر غيض ازاء هذا وذاك.

العلمية والموضوعية في زماننا باتت مثل نقاش موضوعات ميتافيزيقية في دائرة فيينا أو في حلقات الوضعية المنطقية الكل يتهمك بالجهل وإرادة غيب لا يدرك، وما يطفو على الساحة هو نتاج ضخ أيديولوجي ممزوج بمفاهيم تحرك العواطف وأحاسيس الإنسان وتلهبها مع كل كلمة تصدر هنا وهناك من مختلف أو متسائل على سبيل النجاة.

مرةً وفي إحدى جلسات نقاش محتدم سألت شخصاً كان منحازاً جداً، وتظهر عليه ملامح توتر وإرباك وحماسة كبيرة، قلت له "ما هو ناتج جمع العدد واحد مع عدد واحد آخر؟ رد بقوله إذا قال لي فلان الناتج هو العدد ثلاثة فهو كذلك"، ومنذها شعرت بحسرة المأساة التي تعرض لها الأفذاذ من الفلاسفة والعلماء "سقراط وافلاطون، انكساغوراس، ابن سينا، ابن رشد، ابن باجة، والملا صدرا" كانوا شبه مخنوقين بحبائل العامة على دكة الأيديولوجيا، وهذه الأخيرة رغم أنها في جانب من جوانبها تعتمد العلمية لتطوير قدراتها وإدارة مواردها الطبيعية والصناعية، إلا أنها في المقابل تعامد على الخطاب الشعبوي التضليلي لإدارة مواردها البشرية، لأن الأخيرة سلاح فتاك داخلياً يمكنه قمع كل صوت مناوئ والقضاء على الخصوم، لا أقل دعائياً واجتماعياً وكبح جماحهم من قول الحقيقة أو إبداء الآراء المخالفة على أقل تقدير. وهذه معضلة.. إذ بدون الاختلاف يختفي التنوع وتقل فرص الآراء الأخرى التي قد تتوفر على الصواب، وهذا ما فاجأني في النقاشات العمومية، إذ يسيطر عليها الخطاب المؤدلج الذي يعتاش على العواطف والتحيزات ولا يكترث للعلمية إلا ما شذ وندر.