سوسن الجزراوي
لا تختلف كثيراً حكايات الكتّاب وأصحاب الأفكار المثيرة للجدل، عن بعضها البعض، فغالبيتهم واجهوا رفض آبائهم واعتراض المجتمع، وكأنهم ممن يتعاطون المخدرات، في حين أن نتاجاتهم الفكرية تتفوق ايجاباً بمراحل على أقرانهم.
وربما تعود هذه اللازمة المملة، لقناعة الآباء بأن الفن والأدب طريق من لا هدف له، وهو اعتقاد خاطئ مئة بالمئة، إذ يلعب الإبداع الفني دوراً مهماً وخطيراً في حياة المتلقي، فهو غالباً ما يرى أمنياته ورغباته في سيرة حياة هذا المبدع في عالم الفن والأدب، كما أن أعمالهم قادرة على سبر أغوار النفس البشرية لتغنيها بالفائدة والمتعة معاً. ويعد فرانز كافكا، الكاتب الالماني التشيكي، واحداً من الاشخاص الذين عانوا رفضاً أسرياً، إذ كان أمنية والده أن يراه رجل أعمال عوضاً عن رؤيته كاتباً.
ومع ذلك، ومع كل هذا الرفض، فقد أفرزته التجارب بأنه من أهم المفكرين، الذين ألقوا بظلال ثقافتهم على شريحة واسعة من المجتمع، بل توسعت دائرة هذا التأثير حتى وصلت إلى أن تكون جزءا من المنهاج الدراسي، الذي يدرّس في ألمانيا والعديد من الدول الأخرى، وذلك لما يحظى به من شعبية في بلدان ذات كثافة سكانية كبيرة، مثل الهند والمكسيك وكولومبيا وغيرها.
وتعود هذه المكانة التي تمتع بها "كافكا"، إلى كونه أحد أهم المؤلفين في القرن العشرين، وجاء هذا على سبيل المثال، على لسان اسطورة الأدب الكولومبي گابرييل گارسيا ماركيز، الذي أشار الى أن "كافكا" كان أهم عناصر إلهامه في الكتابة.
وعلى الرغم من بعض الصفات السلبية التي كانت تحاصر شخصية هذا الكاتب الخطير، وهي السوداوية والعبثية، إلا أن حكايته المشهورة مع فتاة حديقة شتيكلتس في برلين، تلك الصغيرة التي كانت تبكي بحرقة لفقدانها دميتها، غيّرت الكثير من الآراء السلبية التي أحاطته سنوات وسنوات! فقد أماطت تلك الواقعة، اللثام عن شخصية "كافكا" النقية المليئة بالعاطفة والإنسانية، حين أقنع الطفلة الحزينة بأن دميتها سافرت، وظل يقابلها اسبوعياً حاملاً رسائل عن لسان الدمية كان هو من يكتبها، لتمتد تلك اللقاءات الى نهاية سعيدة للصغيرة، حين جاء وهو يحمل دمية لا تشبه دمية الصغيرة، ويعرّفها بأنها تلك الأولى التي سافرت طويلا، إلا أن الزمن غيّر ملامحها! وبهذا السلوك الإنساني العظيم نجح "كافكا" بإقناع الفتاة الصغيرة بعودة دميتها، حتى وإن غيّرت تلك الشهور شكلها.
وإذ نقف على عتبة بعض كتاباته والتي كان لها الوقع الكبير والمؤثر على القارئ حين ذاك، فربما تأتي عبارة: أنت هدوء قلبي وصخبه في آنٍ واحد، لتفسر لنا شيئا من تلك الصراعات النفسية التي كان يعيشها، أو لربما الازدواجية في مشاعره وهي قد تكون سمة مشتركة بين أغلب المفكرين.
ولا يمكن اغفال عبارته الأشهر عن تشبيه "الحياة بالحرب" إذ قال: الحياة حرب.. حرب مع نفسك، وحرب مع ظروفك، وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف، وتلك الكلمات لا يمكن التغافل عنها، فقد أشارت الى تلك النزاعات، التي تلاحق الإنسان وتجعل من حياته ساحة مستعرة تغلفها رائحة البارود وأصوات المدافع وأزيز الطائرات، سواء كانت هذه الأسلحة معنوية تقاتل النفس البشرية، أو كانت حقيقية لا تخلف وراءها إلا أشلاء متقطعة.
وهكذا، بعد رحلة الابداع والانهيار لاحقاً، يقرر فرانز كافكا أن يحرق كتاباته وأغلب مؤلفاته، مودعاً الحياة بسبب الجوع، إذ كان المرض قد أجهز على حنجرته ما جعل قدرته على الأكل تنتهي، ليرحل تاركاً ذكرى وإرثا تناقلته الأجيال لما كان شكل حياته.