الحق أن ما من إنسان يمتلك القدرة على أداء بهلوانيات فكرية بالمستوى الذي فعله الرئيس ترامب خلال الايام القليلة الماضية إلا اذا كان يتمتع بذكاء خارق.
ففي يوم السبت صرح ترامب أن صحيفة نيويورك تايمز ارتكبت “خيانة حقيقية” بنشرها تقريراً تحدث عن حملة الكترونية أميركية ضد روسيا. بعد ذلك بثوان لا أكثر أعلن ترامب نفسه أن التقرير، الذي وصمه بالخيانة المفترضة، “زائف ايضاً!”
هل نفهم من ذلك إذن، حسب ما ينبئنا به ترامب، أن فعل الخيانة العظمى الذي ارتكبه الصحفيون هو كشفهم أسراراً “زائفة” تخص الدولة؟
في غضون ذلك، ومن خلال مقابلة أجراها معه “جورج ستيفانوبولوس” من قناة “أي بي سي” الاخبارية، أنكر ترامب أن استطلاعات الرأي الداخلية التي أجراها مسؤولو حملته قد كشفت أنه يتذيل القائمة. قال ترامب: “استطلاعات الرأي هذه لا وجود لها”. ولكنه لم يلبث أن طرد منظم حملة استطلاع الرأي لأنه سرب “نتائج استطلاعات رأي لا وجود لها”. (هذا شبيه بنعت ترامب “بوب وودوارد” بأنه يؤلف “قصصاً خيالية” من بنات أفكاره، وفي الوقت نفسه راح يصب جام غضبه على مساعديه لأنهم أوصلوا تلك “القصص الخيالية” الى وودوارد).
خلال مقابلته مع قناة “أي بي سي” تلك قال ترامب ايضاً إنه لو جاءته معلومات من بلد أجنبي تسيء الى مناوئيه فسوف يتقبلها من دون أنْ يبلغ عنها مكتب التحقيقات الفدرالي “أف بي آي”، وأن مدير مكتب “أف بي آي” في إدارته “مخطئ” إذ يقول إنَّ المكتب يجب أن يبلغ بأي ممارسات من هذا القبيل. بعدها مباشرة أعطى ترامب وكالة “فوكس أند فريندز” رأياً مناقضاً فقال “طبعاً” أنه سوف يبلغ مكتب “أف بي آي” بالتأكيد.
في أعقاب ذلك بأيام قال ترامب: “أنا لا علاقة لي بمساعدة روسيا إياي في الفوز بالانتخابات”. ولكنه بعدها بدقائق خرج برأي مختلف فقال: “روسيا لم تساعدني في الفوز بالانتخابات”.
قال “أف سكوت فتزجيرالد” ذات مرة إنَّ “البرهان على امتلاك المرء ذكاءً من الدرجة الأولى يتجلى في مقدرته على الإمساك بزمام فكرتين متناقضتين في ذهنه معاً، مع الاحتفاظ بالقدرة على الأداء”. قدرة ترامب على الأداء مسألة فيها جدلٌ يطول، ولكن إن تكن القدرة على الامساك بأفكار متناقضة في الذهن معيار ذكاء فإنَّ ترامب في هذه الحالة يكون نابغة شديد الاستقرار بحق، إذ لا احد سواه لديه القدرة على مناقضة نفسه بنفسه بكل هذه القوة والفصاحة والتكرار.
في شهر كانون الاول الماضي أعلن ترامب أننا “قد هزمنا داعش”، وفي اليوم التالي مباشرة عاد فقال إنَّ روسيا وإيران والآخرين “سيتحتم عليهم مقاتلة داعش بدوننا”.
خلال الأسابيع الاخيرة قال ترامب إنَّ “روبرت مولر” أجرى تحقيقاته بطريقة مشرفة، وان النتائج التي انتهى اليها فيها إعفاء كامل وتبرئة، ولكنه في الفترة نفسها كان يعمل على ترويج فكرة مختلفة مفادها ان تقرير مولر كله “هراء في هراء” إن لم نقل “فبركات ونفايات سياسية خالصة”.
في الشهر الماضي اعلن ترامب أن شركة “هواوي” الصينية “شديدة الخطر” كتهديد أمني وعسكري، ولكنه في الجملة التي اعقبتها قال إنَّ هذا التهديد الخطير ينبغي أن يشمل في الصفقة التجارية. في وقت سابق من هذا العام أعلن ترامب حالة الطوارئ على الحدود بسبب ما اسماه “أزمة” المهاجرين، ثم إذا به في اليوم نفسه يقول: “لم أكن بحاجة الى فعل هذا”.. وقبلها بشهرين كان قد تباهى بأن “الحدود مغلقة بإحكام”.
في شهر كانون الثاني أعلن ترامب، بعبارة خطت بأحرف بارزة، أن “المكسيك هي التي ستدفع تكاليف الجدار”. بعدها بـ 11 دقيقة بالضبط وجدناه يتذمر لأنَّ مشروع الجدار الحدودي بات مهدداً لأنَّ الديمقراطيين لا يريدون تخصيص أموال له.
قدرة ترامب على (لا أدري كيف أقولها) .. على التطور المستمر موثقة توثيقاً جيداً، وقد لقبت صحيفة واشنطن بوست ترامب منذ وقت طويل بأنه “ملك التقلبات”. استضاف “ستيفن كولبرت” ترامب ذات مرة في مناظرة: “بين ترامب وترامب”.
معظم السياسيين (أو قل معظم الناس) يمكن أن يغيروا آراءهم مع مرور الوقت، لكن الذي يميز قدرات ترامب العقلية هو تمكنه من تصديق فكرتين متناقضتين في آن واحد (أو على الأقل التعبير عنهما معاً في وقت واحد). مثلاً:“يجب فصل الأطفال عن اهلهم لدى محاكمتهم بتهمة الهجرة غير الشرعية”.. ويترتب على هذا أن “أي إنسان يملك قلباً يجب أن يبقي العائلات ملتئمة الشمل مع بعضها”.
و: “أعظم مشكلة يواجهها العالم هي الانتشار النووي”.. ويترتب على هذا أن “على اليابان وكوريا الجنوبية ان تستعدا للدفاع عن نفسيهما بحيازة اسلحة نووية”.
يملك ترامب أعظم ذاكرة عرفها الزمن، لهذا السبب عجز عن تذكر الجواب الصحيح على أسئلة مولر 37 مرة على الأقل.
تراه اليوم لا يعرف سبباً يدفعه للاعتقاد بأن روسيا قد تدخلت في الانتخابات الأميركية، وفي اليوم التالي تراه لا يعرف سبباً يدفعه للاعتقاد بأن الروس لم يتدخلوا.
في كانون الاول قال ترامب انه “يشعر بالفخر” وهو يتحمل مسؤولية إغلاق الحكومة الفدرالية من اجل دفع كلفة الجدار الحدودي، ولكنه سرعان ما اعلن ان الديمقراطيين هم المسؤولون عن الاغلاق”.
في كانون الثاني 2018 تحدث مع مجموعة برلمانيين من الحزبين فقال إنه مستعد للتوقيع على اي صفقة للهجرة يرسلونها اليه، وفي اليوم التالي قال إنه لن يوقع على قانون كهذا ما لم يتلق تمويلاً للجدار.
في شباط 2018 اقترح ترامب إصدار تشريع شامل يتعلق بإجراءات أمن السلاح. قال: “سيكون شيئاً حسناً إذا ما استطعنا تضمينه كل شيء اليه”. بعدها بعشرين دقيقة قال انه يحبذ اسلوب خطوة فخطوة.
في حزيران 2018 قال في تغريدة على تويتر بالاحرف البارزة: “على الجمهوريين في مجلس النواب ان يمرروا مشروع قانون الهجرة.. العادل رغم صرامته”. بعدها بثلاثة أيام عاد مغرداً: “أنا لم أضغط على الجمهوريين في مجلس النواب كي يصوتوا لصالح مشروع القانون”.
كيف يفعلها؟ أنا ذكائي من الدرجة الثانية وهو عاجز عن التصور.