هموم معرفية وآراء بشأن المعنى
صلاح السيلاوي
ماذا يفعل الأدباء في مشاغلهم الفكرية، أين تتوجه بعض بوصلاتهم، هذه محاولة للوقوف على ما يكتبه الأدباء من دون إجابة على أسئلة، إنها محاولة في نقل همومهم المعرفية كما هي، والسعي لصناعة نافذة تطل على مواضيع مختلفة، وقضايا متعددة، ليس فيها اشتراط للابتعاد عن الهامش أو الاقتراب من المتن، إنها رحلة عميقة ومتنوعة توفر للرائي اطلاعا على ما تزرعه الأفكار والمزاجات المختلفة في أرض المعرفة والثقافة.
تفسير الثقافات للمعنى
الناقد الدكتور علي حسين يوسف، تحدث عن تعدد الرؤى فيما يخص تفسير الثقافات المختلفة والقرآن الكريم لمعنى الحياة، فأشار إلى تنوع وجهات النظر حول هذا المعنى باختلاف الثقافات والمعتقدات، حيث تقدم كل ثقافة نظرتها الخاصة.
ولفت إلى أن الفلسفات القديمة، مثل تلك التي نجدها في التقليد اليوناني، تُركز على تحقيق الفضيلة والسعي نحو الحكمة بوصفها أهدافا أساسية للحياة.
وأضاف يوسف مبينا: يعتبر أفلاطون أن الحياة تتحقق فعلياً عندما يسعى الفرد إلى التوافق مع العالم المثالي، حيث يكون السعي وراء المعرفة والفهم سبيلاً لتحقيق السعادة
الحقيقية.
أما أرسطو فقد اعتبر أن معنى الحياة يتحقق من خلال تحقيق الفضيلة والسعادة. وركز على مفهوم "الفضيلة الوسطى"، حيث يسعى الفرد إلى التوازن بين الطرفين. فالسعادة هي غاية الحياة، وهي تأتي من تحقيق الذات من خلال العمل والعلم والمشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية. كما أكد أهمية الفعل والممارسة في الوصول إلى الحياة الجيدة.
من جهة أخرى، ترى الفلسفات الشرقية، مثل البوذية، أن الحياة عبارة عن دورة من المعاناة والألم، ويهدف الفرد إلى التحرر من هذه المعاناة عبر التأمل والوعي. يُعبر هذا التوجه عن إدراك عميق لدورة الحياة والموت، ويؤكد أهمية اللحظة الراهنة، حيث يمكن للفرد أن يجد السلام الداخلي.
أما الكونفوشيوسية فقد أكدت أن معنى الحياة الفاضلة يتحقق من خلال السلوك الصحيح وأن العلاقات العائلية والاجتماعية هي الهدف الأسمى. سعت الكونفوشيوسية إلى تعزيز الانسجام في المجتمع من خلال تعاليم مثل الاحترام، والولاء، والعدل. كما أكدت أهمية التعلم المستمر وتطوير الذات، حيث يُنظر إلى الفرد بوصفه جزءا من كل أكبر، وبالتالي فإن تحقيق التوازن والانسجام في العلاقات الإنسانية هو محور المعنى في
الحياة.
الحياة في القرآن
ثم ذهب يوسف إلى الحديث عن جزء مهم من رأيه هو معنى الحياة في القرآن فقال: عندما ننتقل إلى الثقافة الإسلامية، نجد أن القرآن الكريم يطرح رؤية شاملة ومعمقة حول معنى الحياة. يُفهم من آياته أن الحياة ليست غاية في حد ذاتها، بل هي وسيلة لاختبار الإنسان، حيث يتوجب على الفرد السعي لتحقيق العبودية لله، واكتساب الصفات الحميدة. يقول الله تعالى في سورة الملك:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الملك: ٢)، مما يدل على أن الحياة هي فرصة لاختبار الأعمال.
الحياة، وفقا للقرآن، مُؤقتة، لكن الأفعال التي نقوم بها هي التي تحدد مصيرنا في الآخرة. يُظهر ذلك بوضوح في مفهوم الحساب، حيث يُعزى معنى الحياة إلى نتائج الأعمال الصالحة والسيئة، كما جاء في قوله تعالى:{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} (الحج: ٧).
في العصور الأوربية الوسطى اعتبر القديس أوغسطين : أن الحياة تتمحور حول العلاقة مع الله. مؤكداً أن السعادة تتحقق من خلال الإيمان والنعمة الإلهية، حيث إن النفس البشرية تتوق إلى الخلاص.
وفي العصر الحديث ركز ديكارت على العقل بوصفه وسيلة لفهم الوجود. واعتبر أن "أنا أفكر، إذن أنا موجود" تعكس أن الوعي والفكر هما الأساس في تحديد معنى الحياة، فيما رأى هيجل أن الحياة تتطور عبر صراع الأفكار والتناقضات، مما يؤدي إلى تحقيق الذات. واعتبر التاريخ عملية عقلية حيث يتجلى الروح المطلق، واعتبر ماركس أن الحياة تتشكل من خلال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. ورأى أن الهدف هو تحقيق حرية الفرد من قيود النظام الرأسمالي، من خلال تغيير الظروف الاجتماعية.
وأضاف يوسف أيضا: من جانب الفلسفة الوجودية أكد سارتر على الحرية الفردية والمسؤولية الشخصية. ورأى أن الحياة بلا معنى جوهري، وأن الإنسان يجب أن يخلق معناه الخاص من خلال أفعاله. أما هيدجر فقد ركز على مفهوم الوجود والموت، معتبراً أن الحياة تتطلب الوعي بالموت.
من خلال هذا الوعي، يستطيع الفرد أن يعيش بصدق ويحقق أصالته. ومن وجهة نظر ما بعد حداثية انتقد دريدا الأفكار الثابتة حول المعنى. ورأى أن الحياة تتضمن انفتاحا دائما على التفسير، حيث يتداخل المعنى وينزاح ليظل غير ثابت، مما يعكس تعقيد التجربة الإنسانية.
في كل من هذه الرؤى، نجد توافقا في إدراك الطبيعة المتغيرة للحياة. تشدد الثقافات على أهمية التجربة الإنسانية وتفاعل الأفراد مع محيطهم. الفكرة القائلة بأن الحياة تتضمن تحديات وصراعات، تسهم في تشكيل شخصية الفرد وفهمه لذاته. ومع ذلك، فإن التجارب المشتركة عبر الثقافات تُظهر أيضا
أن البحث عن المعنى هو دافع إنساني
كوني.
تتلاقى هذه الرؤى في نقاط متعددة، حيث تدعو جميعها إلى التفكير في دور الإنسان في الكون.
من خلال تنوع وجهات النظر، يظهر لنا أن الحياة هي أكثر من مجرد وجود، بل هي مسعى نحو تحقيق الذات والفهم الأعمق للوجود. إن قدرة الإنسان على التفكير والتأمل، بالإضافة إلى ارتباطه بالآخرين، تجعل منه كائنا يبحث دائما عن معنى أعمق.
يذكرنا القرآن بأهمية السعي في الأرض واكتساب المعرفة، كما يقول تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ وَآتِ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ} (البقرة: ١١٠)، مما يعكس أهمية الأفعال في إضفاء معنى على الحياة.
إن الحياة، بتعقيدها وتشعباتها، تظل موضوعا غنيا للتفكير والتأمل. فكل ثقافة، بطرقها الخاصة، تسهم في هذا الحوار الأوسع حول معنى الوجود، مما يثري التجربة الإنسانية ويعزز الفهم المتبادل لمغزى الحياة وغاياتها.
من جانبي أرى أن الحياة ليست هدفا ثابتا، بل هي رحلة مستمرة من البحث عن الفهم والمعنى؛ المعنى الذي يتجسد في التفاعل مع الآخرين، وتطوير الذات، وترك أثرا إيجابيا في العالم، من خلال الحب، والصداقة. كما أن التعلم والنمو الشخصي يسهمان في إثراء التجربة، وأن المران على مواجهة التحديات وإيجاد الجمال في اللحظات اليومية، تجعل من الحياة ذات قيمة. أؤمن أن كل تجربة، سواء كانت مفرحة أو محزنة، تسهم في تشكيل هويتنا وفهمنا للوجود.
تجربة ثامر معيوف
القاص إبراهيم سبتي تحدث عن آخر جلسة من جلسات مشغلهم النقدي المتكون من ثلاث شخصيات هم القاصان عباس خلف وعلي حسين عبيد بالإضافة إليه، وقال سبتي: في جلسة مشغلنا الأخيرة، ناقشنا مجمل أعمال القاص والروائي المبدع ثامر معيوف السردية، الذي يعد من كتاب السرد الذين لهم بصمة في مجمل السرد العراقي المعاصر.
وقد كتب روايتين في الثمانينيات وله في القصة مجموعته تحولات النهر ومجموعته الأخيرة "سكان الهلاك". قلت إن القاص ثامر معيوف ينقل الواقع بمآسيه ومكابداته بلغة يستطيع أي قارئ مهما كان مستواه الثقافي بأن
يفهمها. لذا كانت لغته أقرب إلى الشعرية وخاصة أنه يستذكر الموروث الشعبي والفولكلور في أعماله مع بعض المفردات العاميّة في حواراته مما يضفي جمالية وحميمية باعتبار أن شخصياته تنحدر من واقع شعبي واجتماعي يتسم بالبساطة.
وأضاف الروائي عباس خلف بأن قصصه عبارة عن لوحة ملونة تتناثر على صفحاتها براءة الطفولة واستذكاراتها التي عادة ما تكون ممتعة ومحببة للقارئ، وقد كانت روايته الأخيرة "أفياء في النار" وهي الثالثة في منجزه الروائي، سيرة ذاتية للكاتب وهو يكابد سنوات الضياع ومحطات الظلم والهلاك وفقدان الأمل، فجاء السرد محملا بنوع من المأساة والفجائع. إن الروائي ثامر معيوف جزء من حركة السرد العراقي المعاصر وصنع له عنوانا بارعا بين أقرانه.
أما الروائي علي حسين عبيد فقد استذكر القاص ثامر معيوف، حينما كان محررا في إحدى الصحف في الثمانينيات وكان يسهّل كثيرا عملية نشر النصوص القصصية والمقالات، وكان متعاونا مع الأدباء ويسأل عن الذين يتأخرون عنه في النشر. وأضاف بانه ظل يجسد حالة الانسان، وهو يواجه مصيره في ظل الظروف الصعبة والتي كانت تؤرق البشر وهم يحلمون في البحث عن خلاص. وأضاف الشاعر الدكتور خالد الخفاجي بقوله إن ثامر معيوف كان يجعل من نصوصه عبارة عن صفحات من المتعة والدرس في السرد وخاصة في روايته الأخيرة "أفياء في النار" وهي رواية سيرة جعلها سيرة ذاتية مليئة بأهوال الظروف التي مرت به. وقد مارس الصحافة واشتغل بها منذ وقت مبكر وما زال يهتم بالجانب الصحفي
والإعلامي.
حفيد عثمان بن عفان
الباحث حسان الحديثي، تحدث عن شاعر له أثر لطيف وعميق هو "العرجي" وهو عبد الله بن عُمر بن عَمرو بن عثمان بن عفان، ويشير الحديثي إلى أنه كان شاعرَ غزلٍ صريح المعنى صافي الصورة واضح التشبيه، فهو القائل: "أماطتْ كساءَ الخزِّ عن حُرِ وجهِها، وأدنتْ على الخدين بُرداً مهلهلا، من اللائي لم يحججنَ يبغينَ حِسْبةً، ولكن ليقتلنَ الـبـريء
المُغفلا".
وأضاف مبينا: إحرام المرأة إسفارها وقوله: بُردا مهلهلا، أي خفيفاً شفّافاً لا يحجب فتنة وجمال وجهها، وهي زيادة في التعريض وهذا من التصريح الذي يزيد الشعر طراوة وعذوبة.
وهو الذي يقول: "بـاتـا بأنعَم ليلةٍ حـتّـى بـدا.. صـبـحٌ تـلــوّحَ كالأغـرّ الأشـقـرِ/ فتلازما عند الفراق صبابةً.. أخذ الغريمِ بفضلِ ثوب المُعسرِ".
والغريم هو الدائن يُمسك ثوب غريمه المدَين، يحبسه وهو معسر لا يقدر على السداد، وقد جعل ربنا للغارمين حصةً في الزكاة من المستحقين لها، قال ربنا: انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل
فريضة من الله والله عليم حكيم. وهذا من أغرب الوصف ومن أعجب التشبيه فالمُغرم كالغريم يمسك ثوب حبيبه يحبسه عن الفراق ويمنعه من الرحيل.
لأجل ذلك قال عبد الغفار الاخرس: "غرامي غريمي وهو لا شك قاتلي، وكم ذلَّ من يهوى غراماً ويخضعُ".
كتاب محسن اطيمش
الناقد الدكتور صباح التميمي تحدث عن مقترحين عن كتاب مهم أولهما أن تعيد دار الشؤون الثقافية العامة طباعته، وثانيهما أن يكون من ضمن مقررات المنهج التي تُدرس في البكالوريوس، فقال موضحا: هذا الكتاب، من الكتب الأثيرة عندي، وهو يرافقني دائما في قراءاتي للشعر العراقي في السياق الزمني الذي يخوض فيه "شعر التفعيلة منذ الأربعينيات حتى الستينيات"، أعود إليه دائما لأهذّب أسلوب كتابتي الجانح نحو الحداثة، ومصطلحاتها المبهرجة، وهو مرجع مهم لمن يريد أن يتعرّف على (شعرية الرواد) ومن جاء بعدهم، من أجيال الشعرية العراقية المتفجّرة بالجديد والنادر والريادي، يوم كان العراق ربان سفينة الشعرية العربية ريادةً
وحداثةً…
والكتاب في أصله دراسة دكتوراه للمرحوم الناقد والشاعر العراقي الـ (ذي قاري) الدكتور محسن اطيمش رحمه الله، نوقشت مساء يوم 1 / 2 / 1981م بمبنى كلية آداب جامعة القاهرة - آنذاك - وحصلت على درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى، وطُبعت كتاباً في العراق بعد سنة من مناقشتها… واقترح - بهذا الصدد - مقترحين:
الأول لدار الشؤون الثقافية العريقة ببغداد، ومديرها الحبيب الشاعر المبدع الدكتور عارف الساعدي بإعادة طباعة هذا الكتاب الذي نفد، ولم يطبع على حد علمي سوى طبعة (دار الرشيد) وهي المتوفرة حالياً بصيغة إلكترونية.
والمقترح الآخر لوزارة التعليم العالي العراقية، بجعل هذا الكتاب المهم من ضمن مقررات المنهج، التي تُدرس في الدراسة الأولية (البكالوريوس) للأسباب الآتية:
1 -يعنى بالشعرية العراقية الرائدة، وبحقبة مهمة منها، على عكس الكتاب المنهجي المترهّل بقضايا كثيرة، تُشتّت ذهن طالب اليوم المشتّت - أصلا - بعصر الريلز هذا!
2 - هو دورة مجانية للتدريب على تحليل النصوص تحليلا نصيّاً لا يغفل أثر السياق، بل يقدّم بين يدي النصيّة إضاءات سياقية تنفع التحليل وتدفع به للأمام.
3 - لغة النقد فيه شاعرية محبّبة، بعيدة عن التعقيد، والمصطلحات الرنّانة التي تُدخل طالب الأولية في دوّامة؛ لأن كاتبه شاعر .
4 - يكشف عن أهم الظواهر الفنية التي تأسست عليها الشعرية العراقية الرائدة، بأسلوب سلس متتبّع كالأسلوب القصصي في الشعر، والبناء الدرامي وأثر هذا وذاك في اللغة الشعرية والصورة والموسيقى.
5 - لا يقف عند جيل الرواد (الذين اشبعوا بحثا ودراسة عراقيا وعربيا)، بل يتعداهم للأجيال الخمسينية الوسطية والسيتينية المتفجرة بموجتها الصاخبة، كيوسف الصائغ، وفاضل العزاوي، وحسب الشيخ جعفر وغيرهم.
6 - يتيح هذا الكتاب فرصة مهمة لطالب اليوم ليتعرف على شعراء قومه، بدلا من أن يضيع وسط كومة الأسماء العربية التي لا تقترب منه بيئةً وثقافةً.
قد يقول قائل: قد يخلق ذلك قطيعة مع الشعر العربي في الأقطار الأخرى؟ أقول: يمكن أن تعالج هذه المسألة بالعودة لنظام المقررات الذي يمنح الطالب فسحة اختيار بعض المقررات وترك أخرى… فضلا عن ذلك، فالطالب المجتهد يشق طريقه بحثا عن زيادة المعلومة، فيوسّع رقعة اطلاعه على شعراء الدول العربية الأخرى إن شاء…
وقد يقول آخر: هذا قد يضعف ثقافة الطالب؟ أقول: نحن نركض نحو الإيجاز شئنا أم أبينا وعصر (الريلز) بكل ما يحمل من سلبيات خير مثال، لنتدارك ما بقي من ثمالة كأس في هذه الأجيال.