شعراء يتأملون الحياة

ثقافة 2024/10/22
...

  أثير الهاشمي

للحياة وجوه عدّة، منها ما تكون سارّة، وأخرى حزينة، مُستبشرة، أو متشائمة، ضاحكة أو باكية، قلقة أو مطمئنة، مسودّة أو مبيضة، وهذا ما يعكس لحظات المشاعر، وتوجّه
المواقف. ليس لنا إلّا معرفة الآخر بماذا يفكّر، أقصد الحكماء، والأدباء، والفلاسفة، والعلماء، فعقولهم وجلة من الغيب، وأرواحهم شفّافة من الإحساس، يدركون غير المألوف،
بوعيهم وتفكيرهم، ويألفون غير المدرك، بفطنتهم؛ حتى تكون الحياة لديهم متوازنة، في محنتها وفرحها.
يختلف الأدباء ربما عن بعضهم، بوصفهم للحياة، فهم فئة تزداد لديهم لحظات التخييل أكثر من غيرهم، هم يفكرون بعقل وعاطفة، فلا العقل ينفصل عن عاطفتهم، ولا عاطفتهم تنحني عن عقلهم؛ لذلك تجدهم يحلقون ويطيرون، يرقصون ويصفقون، يموتون و"يعدلون"، يضحكون ويبكون، وهم في أمكنتهم ربما نائمون.
نعم ما يدركه الأديب يقع خارج منظومة تفكير الآخرين، فهم لديهم حاسّة لا يمتلكها غيرهم، تُنتج من خلال تفكيرهم، وتحريك عقولهم، ومراعاة عواطفهم، وتخيلهم الذي يجهرون به في صمتهم، ويصمتون فيه أثناء جهرهم.
إنّ أكثر ما ينتاب فضوليتنا الأدبية، خلاصة تجربة الأديب، كيف رأى الدنيا، كيف رأى الحياة، وما تجليات الموت بالنسبة إليه، ما آل إليه العمر من خلال تجاربه، كيف يصف ذلك شعراً أو صورة بلاغية.
ومن ثم ما خلاصة الكلمات التي سيوصي أو أوصى بها للمقرّبين، وما الأثر الذي اُستنتج لأن يُكتب على قبورهم، أو يُدوّن في دواوينهم أو نصوصهم، لتظل شاهداً على مسيرتهم الطويلة، ولتكون تلك الجُمل والعبارات دروسا لنا؛ نحاول أن نعي موعظة نستفيد منها، فالحياة في نهايتها غير الحياة في بدايتها أو وسطها.
يكتب الكاتب شكسبير (1564- 1616) وصيته قبل موته، لتنقش على قبرهِ:
"يا صديقًا صالحًا من أجل يسوع، امتنع
عن حفر الغبار المحصور هنا.
طوبى للرجل الذي يحفظ هذه الحجارة،
ولعنة على من يحرك عظامي".
يُقدّم شكسبير في وصيتهِ لغة الخوف والقلق على جسدهِ، فيُوصي من أجل يسوع بحفظ الحجارة من على قبره، واللعنة سُتصيب من يحرك العظام؛ وهو بهذا يتّجه الاتجاه الديني المُعبّر عن الحفاظ على القبر من العبث، فضلا عن إيمانه بنهاية الإنسان الحتمية.
وتتحدث الشاعرة البريطانية أفرا بيهن (1640 – 1689)، عن الموت، قائلة: "هنا يكمن دليل على أن الذكاء لا يمكن أن يكون دفاعًا كافيًا ضد الموت، ففي بعض الأحيان، يأتي الموت فجأة بحيث لا يستطيع أحد التخطيط له بشكل صحيح؛ لذا يقع عبء اختيار نقش على قبر أحد الأحبة".
ترى الشاعرة أفرا بيهن أن من الصعب اختيار الكلمات التي سيختارها المرء على قبر الأحبة؛ لأن الموت - قد -  يأتي فجأة، إذ لا يمكن لأي وسيلة من إيقاف الموت، فلا تخطيط يفيده، ولا ذكاء يوقفه.
وعلى قبر الشاعر الأسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون(1850- 1894)، تُدوَّن أبياته من قصيدتهِ "قدّاس الموت"، إذ يقول فيها:
"تحت السماء الواسعة والمليئة بالنجوم،
احفر القبر ودعني أستلقي.
لقد عشت بسعادة وسأموت بسعادة،
ووضعت نفسي بإرادة".
يكتب الشاعر رأيه عن الموت بطمأنينة عالية، فهو يجعل من الحياة سعادة، ومن الموت راحة، وبإرادته المُطلقة يؤمن فيه.
أما الشاعر الأمريكي روبرت فروست ( 1874- 1963) فقد أكّد رثاءه قبل سنوات من وفاته في قصيدته " درس اليوم":
"وإذا كان الرثاء هو قصتي
 لكنت قد أعددت واحدة قصيرة لنفسي.
 كنت لأكتب عنّي على حجري
كان لي شجار عاشق مع العالم".
يُضفي الشاعر لغة التناقض الإيجابي الصريح، فهو يجعل من ذاته في شجار عاشق حالم مع العالم، وهو بذلك يجعل الطمأنينة في لغته لرثاء نفسه.
أما أهم ما دوّنته نصوص الشعراء العرب، وما أوصوا به من حِكم أو شواهد تدلّ على وجهات نظرهم عن الحياة، فأبرزهم المتنبي، إذ يقول:
"وَالمَوتُ آتٍ وَالنُفوسُ نَفائِسٌ
وَالمُستَغِرُّ بِما لَدَيهِ الأَحمَقُ
وَالمَرءُ يَأمُلُ وَالحَياةُ شَهِيَّةٌ
وَالشَيبُ أَوقَرُ وَالشَبيبَةُ أَنزَقُ".
يؤكد المتنبي في خطابه الشعري على لغة التوازن بين ثنائية الحياة/ الموت، فالموت لا محالة آت للإنسان، حتى وإن كان حريصاً على نفسه، فالمرء يأمل، وهذه الحياة شهية على البقاء، لكن النهاية حتمية وواضحة، وتحتاج إلى من يعيها.
ويوصي أبو العلاء المعري، بكتابة جملته الشهيرة على قبره بعد وفاته: "هذا ما جناه أبي عليّ، وما جنيت على أحد".
يرى أبو العلاء المعري أنّ أباه ارتكب جناية عليه، فخرج للحياة الدنيا التي عانى فيها كثيرا؛ نتيجة العمى الذي لحق به وهو في سن الخامسة من عمرهِ؛ لذلك هو لم يجنِ على أحد من بعده، أي رفض فكرة الزواج والنسل؛ حتى لا يعاني أولاده من بعده، ويُصيبهم تعب حياة الدنيا كما أصابه.
أما الشاعر محمود درويش، فكُتب على قبره، عباراته التي يقول فيها: "على هذه الأرض/ سيدة الأرض/ ما يستحق الحياة".
تنطق هذه العبارة، بوصفها إحالة نوع من الطمأنينة، ومحاولة بثّ روح الحياة على الأرض، وهي رسالة واضحة عن وجود مَنْ يستحق الحياة على هذه الأرض، على الرغم من السلبيات الكثيرة.
ونلحظ المعنى نفسه في إحدى قصائد الشاعر سميح القاسم المعنونة بــ "سأخرج من صورتي ذات يوم"، إذ يرى الشاعر إنّ الحياة أجل مُسمّى: "جَسَدٌ تُغادرُهُ الحياهْ
يَهَبُ الخلودَ لموتِهِ/ ويرى بحكمةِ مَيِّتٍ وَضحَتْ رؤاهْ/ أنّ الحياةَ هي الحياهْ/ أجَلٌ مُسَمّى، لا سواهْ،/ ولا سواهُ، ولا سواهْ".
إنّ لغة الشاعر سميح القاسم تُفضي بإجابة ظاهرة عن الأسئلة المخفية حول الحياة والوجود والموت، إذ يهب الحياة للروح لا للجسد، فالموت مغادرة الروح للجسد، وبذلك يُفنى الجسد، وتُخلّد الروح، ومثل ذلك ما قاله الشاعر فوزي كريم: "ما أوحشَ هذا الجسدَ الضيِّقَ بالمِحنِ الكبرى/ أو أرحبَ موتَكَ حين يصيرُ مجرَّتكَ الأخرى/ في متَّسعٍ لا يتناهى".
يرى الشاعر فوزي كريم، أن الجسد الصغير لا يتوافق بما يحمله من محن كبرى، وبالتالي فهو يرى أن الموت فيه متسع غير متناه، فهو يُفضّل الموت إذاً في اتساعه على الحياة في ضيقها؛ لأنه الشاعر المتأمل عن لحظات الحياة، لا الآمل فيها.
وعن تلك المعاني المفعمة بالفكر والوعي لا عدم المبالاة في تأمل الدنيا، لا يختلف الشاعر عدنان الصائغ في طرح فكرتهِ عن الحياة في نهايتها، إذ يقول: "للطفولةِ، يُتْمي.. ولامرأتي، الشِعرُ/ والفقْرُ.. للحربِ، هذا النـزيفُ الطويلُ…/ وللذكرياتِ.. الرمادْ.. وماذا تَبَقَّى لكَ الآن من عُمرٍ/ كنتَ تَحْمِلُهُ - قَلِقاً - وتهرولُ بين الملاجيءِ والأمنياتِ/ تخافُ عليه شظايا الزمان/ قالَ العريفُ: هو الموتُ / لا يقبلُ الطرحَ والجمعَ/ فاخترْ لرأسكَ ثقْباً بحجمِ أمانيكَ/ هذا زمانُ الثُقوبْ…أو…/ فاهْرُبِ
الآنَ.. من موتكَ المستحيلْ../ (- لا مهربٌ…/ هي الأرضُ أَضيَقُ مِمَّا تصوّرتُ
… أَضيَقُ من كفِّ كهلٍ بخيلٍ…/ فمَنْ ذا يدلُّ اليتيمَ على موضعٍ آمنٍ/ وقد أَظلَمَ الأفقُ.. واسودَّ وَجْهُ الصباحْ)".
يُضفي الشاعر عدنان الصائغ
فكرته من خلال ثلاث سمات رئيسة،
إذ تتجلى الأولى في أن الذكريات
حروب ونزيف ورماد، والعمر انتهى بين قلق الملاجئ والأمنيات، أما الثانية، فتخصّ لغة الموت، إذ لا مهرب منه،
ويحدّ الثالثة في لغة الأرض بوصفها ضيقة، بل أضيق مما يتصور الشاعر أو المرء، وهو بهذه الأفكار يختصر المسافة بين العمر في بدايته، وبين الحياة في نهايتها.