عباس منعثر
للنقدِ دورٌ أساسيّ في تعزيزِ الوعي، فمن خلال متابعتِه، يتمكنُ القرّاء من فهمِ النصوصِ على نحوٍ أعمقَ، ويتحفزُ الكتاب على تحسينِ أساليبِهم وأفكارِهم بفضلِ ما يقدمه من رؤى وما يفتحُ من مساحاتٍ جديرةٍ بالتدبر في طرق غيرِ مأهولةٍ من الابتكارِ والتجديد.
لم يعد النقد فضاءً بريئاً أو محايداً في موازنة النصوصِ والحكمِ عليها. التصورُ التقليدي للنقد كحوارٍ مع المنتَجِ الإبداعيّ أصبح من الماضي. لقد تشكلت توجهات متفاوتة في صياغة أخلاقيات جديدة للقراءة لا تراعي معظمها اللياقة والاستقامة بالضرورة.
هناك، أولاً، نقادٌ تدفعهم روابطُهم الشخصيةُ أو الاصولُ الايدلوجيةُ المشتركة مع شاكلتِهم من الكتّابِ لتقديمِ قراءاتٍ منحازةٍ تميلُ الى كفّتِهم لأسباب عاطفية. عن طريقِ المحاباةِ، يسعى الناقدُ إلى دعمِ قرينِهِ حتى لو لم يكن العملُ يستحقُّ الدعمَ والمديحَ المبالغَ فيهِ أو التبريرَ وغضَّ الطرفِ عن الفجواتِ والأخطاءِ التي لا تُغتفر. بفعلِ المزاملة، ينقلبُ النقدُ إلى نوعٍ من التسويقِ غيرِ المباشرِ، حيث يطمحُ الأصدقاءُ إلى تدعيمِ سمعةِ بعضِهم بتعاضدٍ متبادَل.
وفي زمنِ تزايدِ الانقسامِ السياسيّ والعقائدي حيث يتوّزعُ الناسُ إلى مجموعاتٍ فكريةٍ متجانسةٍ فيما بينها ومخاصمةٍ لضدِها النوعي، يسندُ الناقدُ آراءَ مجموعتِه الديماغوجية ويتجاهلُ أو يقللُ من شأنِ الأعمالِ التي تخالفُ قناعاتِه. يؤدي ذلكَ إلى انغلاقٍ فكريّ وتضييقٍ في الفضاءِ التبادلي فيتضاءلُ التنوعُ بسيادةِ اللونِ الواحدِ على بقيةِ ألوانِ الطّيفِ الشّمسي.
وبافتراضِ النيةِ الصادقة، فإنَّ هذا النوعَ من النقدِ لا يساهمُ إلا في خلقِ مشهدٍ نقديّ مريضٍ، قائمٍ على "شلليةٍ" مدمرة، المعاييرُ النقديةُ فيها قناعٌ لتغطيةِ الولاءاتِ الشخصيةِ والعلاقاتِ الضيقة. يُختزَلُ النصُّ إلى سلاحٍ في معركةِ المصالح، بينما يُستبدَلُ الالتزامُ الموضوعيُّ بمقاييسَ زائفةٍ من النُصرةِ والقرابة. عندما تحتضنُ الأيديولوجيا هذا المسار، فإنها تدفعُ النقدَ إلى هاويةٍ من التحريف، فلا يبقى منهُ إلا صدى مشوَّهٍ للأهواءِ، مُفرَّغاً من أيةِ قيمةٍ فعلية.
ثانياً، للانتهازيةِ حصّةُ الأسدِ من الحوافزِ الأساسيةِ للسلوكِ البشريّ. إنّها فنُّ استغلالِ الفرصِ لتحقيقِ مكاسبَ شخصيةٍ بالتجاوزِ على مصلحةِ الآخرينَ والخيرِ العام. هي انتفاعٌ سريعٌ قائمٌ على تغييرِ المواقفِ واستغلالِها تبعاً للظروف، حيث تُوظَّفُ المبادئُ ميكافيلياً لتحقيقِ أهدافٍ أنانية، بعيداً عن أيّ التزامٍ تجاهَ الحقيقة. بالمحاكاة، يسعى الناقدُ الانتهازيُّ إلى الاستفادةِ الشخصيةِ من أيّ علاقةٍ نقدية، سواء عبر الترويجِ لنفسهِ أو استغلالِ المزايا الماديةِ أو المعنوية للتملّق. بشكلٍ مكثفٍ، يقعُ الناقدُ تحتَ تأثيرِ منزلةِ كاتبِ النصِّ وإمكانيةِ تأثيرهِ على الناقدِ مقابل نقدٍ إطرائي، كثمنٍ بخسٍ يبيعُ بهِ تقديرَ الذات والاعتزازَ بالنفس.
وعلى الرغمِ من رغبتهِ بالحياد، يجدُ الناقدُ صلادتَهُ في كثيرٍ من الأحيانِ مجبرةً على التكيفِ مع نظامٍ سائرٍ في رَكبِ الانتهازية. فالسيستم يشترطُ المديحَ والثناءَ لصعودِ السُّلّمِ ويفرشُ الدربَ بالسجادِ الأحمر، وأيُّ مخالفةٍ تعني العزلَ والحرمانَ من النشرِ والانتشارِ والتكريمِ وغيرِها. هكذا يصيرُ النقدُ الخاضعُ سوطاً لإذلالِ الآراء؛ بدلَ أن يكونَ ساحةً للتعبيرِ الحرِّ عن الرؤى.
وبروحٍ سلبية، يقتربُ بعضُ النقدِ، ثالثاً، من النصوصِ بدوافعَ ناتجةً عن ضغائنَ شخصيةٍ أو إحساسٍ بالحسدِ أو الانتقامِ من الاستبعادِ عن الغنائم. سلبيةُ هذا النقدِ لا تستندُ إلى فحصٍ منصفٍ؛ وإنما تُذكيها العدوانيةُ تجاهَ كاتبِ النصّ وتُغذيها محاولةُ إثباتِ التفوّقِ على الوسطِ الثقافي. وفي تعاملِهِ مع خصائصِ النصّ الإيجابيةِ، يحاولُ الناقدُ إيجادَ العيوبِ في هذه المواضعِ، لأنه يتبنى موقفاً مغايراً سلفاً، بصرفِ النظرِ عن مستوى النصِّ المنقود. ثمةَ تركيزٌ على الفارغِ من الكأسِ دائماً، بسببِ عاهاتٍ نفسيةٍ لا علاقةَ لها بالتقييمِ أو فتحِ منافذَ تأويليةٍ تثري النصّ. لا تضرُّ هذه الممارساتُ النصوصَ فقط؛ لكنّها تؤثرُ سلباً على المناخِ العامِّ للنقد، حيث يتحوّلُ إلى فرصةٍ لتصفيةِ الحسابات، نتيجةً لعدمِ الفصلِ بين الذاتِ والموضوع.
رابعاً، المناخُ النقديُّ ليس مختنقاً تماماً، خاصةً أنَّ النزاهةَ والنظرَ إلى الحقائقِ والوقائعِ كما هي، والاستنادَ إلى معاييرَ موحَدةٍ توخياً للدقةِ ما زالت ممكنةً طبقاً للنظرةِ المتفائلة. بعيداً عن المعَ والضدِّ، هناك نقدٌ حياديٌّ وغيرُ متأثرٍ بأيّ رغبةٍ شخصيةٍ أو مشاعرَ سلبيةٍ تجاهَ النصِّ أو كاتبه: انهُ النقدُ الموضوعي.
ورغمَ أن هذا النوعَ من النقدِ يُعدُّ الأكثرَ احتراماً؛ إلا أن هناك شكّاً كبيراً بفكرةِ الموضوعيةِ المطلقةِ أساساً. هي مفهومٌ فنتازيٌّ مثاليٌّ يخالفُ طبيعةَ الإنسان. الوصولُ إليهِ مستحيل، لأنّ النقّادَ، مثلَ كلِّ البشرِ، يتأثرونَ بخلفياتِهم الثقافيةِ والاجتماعيةِ وتوجهاتِهم الفكريةِ وتجاربِهم الفرديةِ ونوازعِهم المصلحية. في أفضلِ الأحوال، محاولةُ الحياديةِ تقودُ إلى إخفاضِ التحيزِ قدرَ الإمكان، مع الاعترافِ بأنَّ التأثيراتِ الذاتيةَ تظلُّ موجودةً دائماً، وإن بشكلٍ نسبيّ. حتى النقادُ الذين يسعونَ إلى أن يكونوا موضوعيينَ لا يستطيعونَ دائماً التخلّصَ من تفضيلاتِهم أو ميولِهم الذوقية. هذه الفئةُ من النقادِ تُصارعُ الغرقَ، في محاولةٍ دائمةٍ للسباحةِ ضدّ التيار حتى إنْ خالفتْ الحسَّ العام.
بالإضافةِ إلى ما يواجههُ النقدُ عموماً، تزدحمُ الاغراءاتُ في الحقلِ المسرحيّ تحديداً، نتيجةَ الآصرة الوثيقة بينهُ وبين شبكاتِ العلاقاتِ العامة. النقادُ المسرحيون يتعرّضونَ لضغوطٍ تجعلُ الصدقَ تحدياً لا ينتهي، لأنّ المنافعَ العمليةَ والمواجهاتِ المباشرةَ في المحافلِ المسرحيةِ تشكّلُ أخطبوطاً غيرَ مرئيّ من التقييدات. أحياناً كثيرةً، يجدُ الناقدُ، خاصةً الموضوعيُّ، نفسَهُ محاصَراً من رغبتِهِ في اجتراحِ نقدٍ صادقٍ ومحترف؛ والخوفِ من التداعياتِ التي قد تضرُّ بسمعتِه أو علاقاتِهِ المستقبلية. في النهايةِ، تُخفقُ الغالبيةُ في اختبارِ الاستئثارِ والحيازة، فتتساقطُ ثمارُ النقدِ المدلسِ في مستنقعِ المكاسبِ الضيقة.
مهما كانتْ عيوبُ النقدِ وإخفاقاتُه، فإنّ الوعيَّ لا يزدهرُ بمعزلٍ عنه، فهو ماسحٌ ضوئي يكشف عن الهياكلِ الأدبية قبل أن تتماسك، ويواصلُ مرافقتَها في مسيرتِها نحو الاكتمال؛ غير أنّ نسبةً كبيرةً من القرّاءِ لا يطلّعونَ على النقدِ مطلقاً ونسبةً كبيرةً أخرى من الكتّابِ لا يهتمونَ بهِ مطلقاً، لذلكَ تجدُ ذائقةَ القارئ لا تتشذبُ وقدراتِ الكتّابِ لا تتشعبُ، ولذلكَ نُعيدُ اكتشافَ العجلةِ من جديدٍ كلّ عقدٍ من الزمان.
نسبة كبيرة من القرّاء لا يطلّعون على النقد المسرحي مطلقاً.