حفارو قبور الفكر الحر ألبير كامو: السقطة

ثقافة 2024/10/23
...

  ترجمة: كامل عويد العامري

لقد أدى التقارب بين الصراعات المعاصرة إلى جمع أطياف متنوعة، من اليساريين المتطرفين إلى اليمينيين المتطرفين تحت راية "معارضي اللقاحات". وعندما ننظر إلى هؤلاء "الثائرين" و"الغاضبين"، كيف لا نفكر في كامو ورحلة بطل روايته القصيرة والقوية "السقطة" والتي يساء تقديرها، وهو يشعر بالذنب؟ أخشى أن الكثير من هؤلاء المتشائمين لا يشاطرون ذلك الشعور بالذنب، تلك الأزمة الأخلاقية والوجودية المؤلمة والمفيدة، حين نراهم يدفعون من يستمعون إليهم نحو مصير مأساوي في بعض الحالات.

صدرت هذه الرواية في عام 1956، بعد أربعة عشر عاماً من صدور رواية "الغريب". تتناول الرواية، من خلال مونولوج أدبي رائع، اعترافات جان- باتيست كلامانس في أحد المقاهي. يعترف كلامانس، هذا المحامي السابق للقضايا الكبرى والذي أصبح الآن "قاضياً تائباً"، بعدم قدرته على العيش. يأتي هذا الاعتراف بعد أن فشل في التدخل لمنع انتحار شابة ألقت بنفسها في نهر السين ذات ليلة كان يمر من هناك.

"قبل بضع سنوات، كنت محامياً في باريس، وبالفعل، محامياً معروفاً إلى حد ما. بالطبع، لم أخبركم باسمي الحقيقي. كان تخصصي في: القضايا النبيلة." - التي تعتبر عادلة ومهمة - "كنت مدفوعاً بمشاعر صادقة: الرضا عن وجودي في الجانب الصحيح من القضية، وازدراء غريزي للقضاة بشكل عام." ؛ "كنت أحب التصدق." يسخر كلامانس من نزعته إلى فعل الخير ليكشف عن الوجه الآخر لإيثاره، وهو مزيج من الأنانية والغرور: "كنت في الجانب الصحيح، وهذا كان كافياً لراحة ضميري".

يصف نفسه بصراحة تامة، متضخم الأنا وواثقاً من تفوقه الأخلاقي والفكري ("كنت على يقين تام بأنني أذكى من الجميع"). إلا أن ما يصفه يتناقض مع حيرته عندما سمع ضحكة غامضة عند عودته إلى المنزل ذات ليلة: "ترى، سيدي العزيز، كانت ليلة خريفية جميلة، لا تزال دافئة على المدينة، ورطبة بالفعل على الرصيف [...]. كنت أصعد إلى جسر الفنون؛ كان خالياً في هذا الوقت [...]. نهضت وأشعلت سيجارة، سيجارة الرضا، وعندها بالضبط، انفجرت ضحكة خلف ظهري. فوجئت، والتفت فجأة: لم يكن هناك أحد".

يحدد كلامانس أصل تلك الضحكة التي كسرت الصمت، والتي أصابته كالصاعقة أو كإصبع إلهي يشير من السماء، على أنه ذكرى يقشعر لها البدن. كان يتجول مع صديقه الجديد: "فلنجلس في مأمن، على هذا المقعد. لقد جلس مدخنون للتبغ هنا قرونا عديدة وهم يتأملون المطر نفسه يسقط على القناة نفسها." قبل عامين، ارتكب كلامانس جريمة إهمال شخص في خطر، وحاول طمس هذه الذكرى المؤلمة التي تطفو على سطح روايته مثل جسد الشابة الغارقة في نهر السين.

"في تلك الليلة، من شهر نوفمبر- تشرين الثاني، قبل سنتين أو ثلاث من تلك الليلة التي ظننت فيها أنني سمعت ضحكة خلف ظهري، كنت أعود إلى الضفة اليسرى، وإلى منزلي، عبر جسر رويال. [...] على الجسر، كنت أمر خلف شكل متكئ على السور [...] اقتربت أكثر، فتمكنت من تمييز امرأة شابة نحيلة، مرتدية ملابس سوداء [...] كنت قد قطعت حوالي خمسين متراً، عندما سمعت صوتاً، بدا لي هائلاً في صمت الليل رغم المسافة، صوت جسم يسقط في الماء." يعترف كلامانس بافتقاره إلى الشجاعة. "توقفت فجأة، لكن من دون أن ألتفت. وسرعان ما سمعت صرخة، تكررت عدة مرات، وهي كانت تنزل هي الأخرى مع مجرى النهر، ثم خفتت فجأة؛ [...] أردت أن أركض ولم أكن أتحرك. [...] نسيت ما فكرت فيه حينها. "لقد فات الأوان، بعيدة جداً..." [...] ثم، بخطوات بطيئة، تحت المطر، كنت ابتعد. ولم أبلغ أحداً."

بينما كان يمضغ ذكرى صوت تلك السقطة، كمرآة صوتية تعكس وجه جبنه، منذ عدة سنوات، يعيد النظر في حياته ويندم على أنانيته ونرجسيته على حد سواء: "لقد كنت دائماً أنفخ نفسي بالغرور. أنا، أنا، أنا، هذا هو لحن حياتي الأثير." ولأنه يشعر بأنه مطارد بنظرات عدائية، فإنه يدفع ثمن تقصيره كل يوم: "كان لا بد أن يعيش في حالة من عدم الارتياح." "يجب أن أكون أعلى منكم، أفكاري تسمو. في تلك الليالي، أو بالأحرى في تلك الصباحات، لأن السقطة حدثت عند الفجر، أخرج، أسير بخطوات سريعة على طول القنوات." إن الإشارة الأخيرة التي تشير إلى عنوان الرواية تعزف على الغموض الذي يكتنف الراوي، الذي يشبه استيقاظه بسقطة لا نهاية لها يحاول فيها، في اللحظة الأخيرة، جر مستمعه معه - والذي ربما كان مجرد نسخة طبق الأصل منه.


ازدواجيتنا المرهقة

أن نحكم أو أن يُحكم علينا، أن ندين أو أن نُدان، هذا هو البديل الذي لا يمكن الدفاع عنه والذي يحاول كلامنس عبثًا أن يتجنبه قائلاً ما يجب أن يتأمله الآخرون اليوم: "لقد قبلت الازدواجية بدلاً من الأسف عليها".

على غرار كلامس الأصلي، الذي ورث الأعباء الوجودية التي استهدفها كامو في عصره، يصر بعض الخطباء المعاصرين، الذين يتسمون بالغطرسة والثقة بالنفس، ويسكنهم يقين المقاوم، ويحفزهم تجاوب الجماهير، على الانطلاق في خطابات ثنائية القطب. هذا التعنت والمزاعم المفرطة بأن يكونوا في "الجانب الصحيح" يتردد صداها مع موقف المثقفين الوجوديين الذين دانوا خيار الاعتدال الذي دعا إليه كامو. عند وفاة الأخير، ألقى عليه صاحبه السابق الذي تحول إلى عدو، سارتر الذي يمثل إلى حد كبير شخصية القاضي التائب، تحية رائعة: "كنا نعيش مع فكر كامو أو ضده، كما كشفت لنا كتبه - السقطة، ربما أجملها وأقلها فهماً - ولكن دائماً من خلالها. كانت مغامرة فريدة من نوعها في ثقافتنا، حركة حاولنا التنبؤ بمرحلتها ونتائجها النهائية [...]. لقد مثل في هذا القرن، وضد التاريخ، الوريث الحالي لتلك السلالة الطويلة من الأخلاقيين، الذين ربما كانت أعمالهم هي الأكثر أصالة في الأدب الفرنسي. لقد خاضت إنسانيته العنيدة، الضيقة والنقية، القاسية والحسية، صراعًا مؤلمًا ضد الأحداث الضخمة المشوهة لهذا الزمان. ولكن، على العكس من ذلك، من خلال إصراره على الرفض، أعاد تأكيد وجود الحقيقة الأخلاقية في قلب عصرنا، ضد الماكرين، وضد الصنمية الزائفة للواقعية".

قبل أربع سنوات من نشر رواية "السقطة"، أدان كتاب "الإنسان المتمرد" الثورات والأيديولوجيات الاستبدادية التي تستعبد البشرية بحجة تحريرها من خلال القمع الدموي. وفي ذروة الحرب الباردة، لم يكن ذلك تصريحًا بريئًا، حيث كان ستالين، الذي كان لا يزال في السلطة، يتمتع بدعم العديد من المثقفين الفرنسيين.

"حتى مجيئهم، كان الرجال يموتون باسم ما يعرفون أو يعتقدون أنهم يعرفون. وابتداءً منهم، اعتاد الناس، على نحو أصعب، على التضحية من أجل شيء لا يعرفون عنه شيئاً، سوى أنه يجب الموت من أجله لكي يكون"، هذا ما يقرره كامو، الذي يلوم خصومه على استمتاعهم بشعور ذنب مميت واتهامي باسم مثالية جاهلة. وعلى العكس من ذلك، يدين الكاتب الانسياق وراء موقف جذري يعفي المرء من الشكوك والتفكير: "الإفراط هو دائماً راحة، وأحياناً مهنة". إن استبدادية العقل، مثل استبدادية الخير، "إمبراطورية الخير" الشهيرة التي انتقدها فيليب موراي، تؤدي إلى صراعات أكثر ضرراً بكثير من الشرور التي يدعون القضاء عليها. وقد كتب كامو بالفعل في صحيفة “Combat " عام 1948: "نحن نختنق وسط الناس الذين يعتقدون أنهم على حق تماماً". وهو داء لم يجد أحد لقاحاً ضده يا للأسف.


رفض السقوط

أدى هذيان جنون العظمة لدى جان بابتيست كلامنس إلى اختيار مهنة غريبة هي مهنة       "القاضي التائب". "ولما كان لا يمكن للمرء أن يدين الآخرين من دون أن يدين نفسه على الفور، كان لابد من تحميل النفس الوزر لكي يكون له الحق في الحكم على الآخرين. ولما كان كل قاضٍ ينتهي به المطاف تائبا في يوم من الأيام، كان من الضروري أن يسلك الطريق المعاكس لينتهي به المطاف إن يكون قاضياً" إن التظاهر بالصلاح عند الراوي الكاموي يكشف عن نفاقه. إن كلامنس، بوصفه قاضياً وتائباً في آن واحد، يستخدم موقعه لإنشاء تسلسل هرمي ليعفي نفسه من الانتقادات. هذا الطرطوف Tartuffe لا يشعر بأنه "معني بأي حكم" ويتخيل نفسه "فوق القاضي الذي حكم عليه بدوره، وفوق المتهم الذي أجبره على الاعتراف". إن عقدة التفوق هذه تخفي في الواقع خوفًا شديداً من أن تصبح هدفاً لحكم الآخرين. يحكم الراوي حتى قبل أن يكون في وضع يسمح بأن يُحكم عليه. إنه يرفع من شأنه قبل أن يهان. "بالطبع، كنت أعرف عيوبي [...]. أما محاكمة الآخرين، من ناحية أخرى، فقد كانت تجري بلا هوادة في قلبي."

في العديد من المناقشات التي تدور اليوم نصادف هؤلاء القضاة التائبين- وهم قضاة متشددون ومتعنتون بقدر ما هم منافقون. لقد رأينا "المناهضين اللقاحات" يرتدون ثوب الضحية، لكي ينصبوا أنفسهم قضاة. وفي صفوف هذا الجيش المنتشر والمُتَبَجِّح، الذي لم يتردد أعضاؤه في تلقي العلاج في العناية المركزة على الرغم من أن جرعتين من اللقاح كانا سيجنبهما على الأرجح مثل هذه النتيجة، ذهب البعض إلى حد الغوص في الوحل بخياطة نجمة صفراء على طية صدر سترته للتنديد بما وصفوه بـ التفرقة "بذات الشعار". الغثيان، مرة أخرى. إن نفاق هؤلاء المتمردين الكرتونيين الغارقين في المرارة، الذين يتقلبون بين قضاة وضحايا، يدفعهم إلى تبني مواقف كاريكاتورية، مثل راوي كامو الذي يدرك تدريجيًا نفاقه، ولكنه مع ذلك لا يتخلى عن إلقاء خطابه والحفاظ على مكانته. "كنت أواصل فقط تمثيل دوري"؛ و"كنت أتجول كل ليلة عند المنضدة، تحت الضوء الأحمر وغبار هذا المكان المليء بالملذات أكذب كمن خلع أسنانه ويشرب لمدة طويلة".

هل يمكن لأولئك الذين يصفون الدول الغربية بـ "الديكتاتوريات" أن يقضوا بضعة أيام في أفغانستان الطالبانية أو كوريا الشمالية أو فنزويلا ويدركوا أن اللقاحات الأحد عشر التي فرضتها الدولة الفرنسية لم تؤدِ إلى بناء أي برج مراقبة، بل حمتنا من العديد من المآسي الإنسانية؟

لقد بات من الملح إيقاظ ضميرنا الثقافي والتاريخي والعقلاني والأخلاقي، لكي لا ندع المفهوم الديمقراطي ينهار باللامبالاة المذنبة نفسها التي ترك بها كلامنس المرأة المجهولة على نهر السين لمصيرها الحزين. إن الانحدار نحو التطرف، من خلال الجبن أو الكسل أو التعطش للسلطة، يمكن أن يقودنا بسرعة وعلى نحو جماعي إلى عهد قضاة تائبين جدد الذين سيكون بعضهم سعداء للغاية بارتداء ثياب جديدة. وها نحن نرى، بالفعل، أحزاباً كانت تسمى سابقاً الأحزاب "الحاكمة" تتاجر بمُثُلها وفضائلها من أجل بضعة مقاعد في البرلمان.

بدلاً من الانكفاء والزيغ والتباهي العدواني، لنختر الانفتاح والفضول والتواضع. ولنلقِ بكل ما لدينا من قوة في سبيل الحفاظ على نموذج الحرية والتسامح الذي قام عليه العالم الحر كما نعرفه اليوم، والذي تتآكل أسسُه أمام صعود الصيحات الكارثية والخطابات المتشائمة والأكاذيب المتنكرة في ثياب الحقائق. لنحذر من تكبر هؤلاء المدعين للأخلاق الذي يتحلى به حفارو قبور الفكر الحر، عبدة السذاجة الذين يعبدون "العجول الذهبية" ويركزون على الشهرة.

يقع على عاتقنا واجب إثبات خطئهم، ورفض القدرية وخيانة قيمنا الأساسية. لننظر في هذا السياق إلى التحقيقات عالية المخاطر التي أجرتها ألكسندرا جوسيه، والتي عرضت كاميرتها الملتزمة علينا قبل وقوع الأحداث ما يحدث في المناطق التي تُسلب منها الحرية: . هذه الشابة وفريق عملها، مثل برنارد هنري ليفي وفريقه، وهما يقدمان للعالم صورًا مؤثرة عن الثبات الأخلاقي والحقيقة في أحدث أفلامهما "فكرة أخرى عن العالم"  انهما يبذلان جهودًا كبيرة لحماية حرياتنا.

دعونا نتعلم من هذه التحذيرات حتى لا تحدث السقطة المميتة أبدًا، تلك التي يعلمنا منها كامو أننا قد لا ننهض مرة أخرى أبدًا.


* طرطوف Tartuffe ملهاة تكشف الجانب الجديّ من شخصية مؤلفها "موليير"، ذلك الممثل الذي أصاب حظاً وافراً من العلم، واختبر الناس وشؤونهم، وتمرس بالأهوال، واغتنى ذهنه بالمشاهد والصور أثناء رحلاته في أرجاء فرنسا كلها مدة ثلاثة عشر سنة (1645 - 1658)، وعرف كثيراً من العادات واللهجات وشتى ضروب الحياة مما كان له أكبر الأثر في تفهمه لطبيعة الإنسان وعاداته وأخلاقه.