الجمال شعورٌ إنسانيّ

ثقافة 2024/10/23
...

كاظم لفتة جبر
يعدُّ الجمال جزءاً مهماً من فهمِ شعورنا ومواقفنا تجاه أنفسنا والآخرين والموضوعات، ويعدُّ الجمال قيمة إنسانيَّة عليا يتمُّ ربطُها بالخير والشر، أو ما يقابلهما في الفهم الجمالي الجميل والقبيح، فعلى أساس تلك الثنائيات تمَّ الترويج للجماليات قديمًا.

إنَّ الجمال موجودٌ ومنتشرٌ في الطبيعة والإنسان والفن والحيوان والنبات، فهل من الممكن قياس جمال تلك الأشياء وفق ارتباطها بالخير والشر؟ 

إنَّ ربط الجمال بالخير والشر قديمًا كان نتيجة ارتباطه بالفعل الإنساني الأخلاقي، وعندما جاءت الديانات في العصور الوسطى أكدت ذلك.

إلا أنَّ فهم الجمال في العصور الحديثة ارتبط بالشعور أكثر من الفعل، لذلك سادت جماليات الفنون الجميلة، والإبداع والابتكار والتجديد في فهم الجمال، وهذا يرجع الى كون الفكر تحرر من سلطة الكنيسة في أوروبا.

وبما أننا انتقلنا من الفعل إلى الشعور الجمالي، تخلصت الجماليات من الفهم المحدد والمقيد والمعيار الجاهز والقوالب الثابتة، وحتى من قواعد أرسطو الجماليَّة، كما أنَّ فهم الجمال من خلال العلم، ليس بمعنى أنه خاضعٌ للقوانين التجريبيَّة، بل الاستعانة بالعلوم النفسيَّة والاجتماعيَّة لفهم طبيعة الشعور الإنساني عن الجمال. فالحكم الجمالي مع التنوير وكانت أصبح يخضع للكميَّة والكيفيَّة والجهة والغاية.

فأصبح الجمال نسقياً أكثر ممَّا كان عليه معيارياً، وأصبح ممتداً متشعباً بينياً معقداً، أكثر ممَّا كان بسيطاً وموضوعياً. يخضع للذائقة أكثر من القاعدة، جمهوريٌّ أكثر مما هو نخبوي، إذ أصبحت الموضة والدولة هي من تحدد معيار الجمال كما يراها الفيلسوف باسكال.

ارتبط بالإعلام والإعلان، لكي يحقق غاياتٍ فرديَّة أو جماعيَّة، وهذا جعل الشعور استهلاكياً أكثر ممَّا هو استمتاعي منتج، انتقلنا من فن اللوحة إلى الجهاز اللوحي الذي اختصر كل رغباتنا.

إذ كون الجمال شعوراً إنسانياً فهو معرضٌ للتغيير، خاضعٌ لأبعادٍ نفسيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة، ويتماهى هذا الشعور وفق قواعد كل بعُد. فهو شعورٌ يرتبط بالحب، وشعورٌ يرتبط بالانتصار، وشعورٌ بالرغبة وباللذة، والأعمال الخيريَّة، والعطاء، وحب الظهور والشهرة وغيرها الكثير من الأشياء التي يمثل فيها الجمال كشعور، وليس كموضوع.

فالموضوع الجمالي غير الشعور الجمالي، كون أنَّ الموضوع ممكن أنْ يخضعَ للقواعد والمعيار والقوانين والموضوعيَّة والمحدوديَّة المطلوبة منه لتجسيده بأحسن حال، بعكس الشعور الذي هو ذاتيٌّ يخضعُ لعوامل داخليَّة وخارجيَّة، نسبيٌ متفاوتٌ من فردٍ الى آخر، ومن زمانٍ الى آخر، ومن مكانٍ إلى آخر.

فالشعور ذاتيٌ متغيرٌ، والموضوع موضوعيٌ ثابتٌ، فما بين الشعور والموضوع تتفاوت الظاهرة الجماليَّة بين الأفراد والشعوب والأمم، وإذا كان الفعل الجمالي يخضع للخير والشر، فإنَّ الشعور الجمالي يخضع للراحة والألم، أو الشعور بالرضا الذي عبَّرَ عنه الجرجاني في كتابه (التعريفات)، وأكد على ذلك الفيلسوف كانت، فهو توافقٌ بين الحساسيَّة والفهم، أو جون ديوي الذي يرى ضرورة إيجاد الإيقاع الناشئ بين طاقات الإنسان والظروف المحيطة به. لذلك يمكن أنْ يخضع الشعور الجمالي للتلاعب من قبل الأفراد، أو أيديولوجيا معينة أو أنظمة عالميَّة أو الدولة، وذلك يتمُّ من خلال الإغواء أو الإثارة أو توجيه الجمهور نحو شيءٍ معين.

فقديمًا وصفت السفسطائيَّة الشعور الجمالي بفن الخداع من خلال اللغة، أما اليوم فيتم الخداع من خلال الصورة والإعلام، الفلاتر الرقميَّة وعمليات التجميل والفوتوشوب، هذه أصبحت من مبادئ تقديم الإنسان لنفسه أو ما يريد أنْ يعرضه للعالم، فهو يعمل على استمالة الإحساس والذائقة لدى الأفراد أكثر ممَّا يعملُ على جودة المنتج أو نفسه.

كل ذلك أصبح طبيعياً في عالمنا اليوم، وجزءاً من حياتنا اليوميَّة، وكما يقول موران “لم يعد الجميل كما كان عليه، فكل الأحاسيس التي خرجت من الذات الإنسانيَّة تمَّ ترميزها في هاشتاكات ورموز وأرقام وترندات، فليس الشعور الجمالي مرتبطاً بالخير والشر، أو الصح أو الخطأ، أو العيب أو الحرام بقدر ما هو شعورٌ بالرضا. بعيداً عن خيريَّة الذات الإنسانيَّة أو الأمراض النفسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة”.