خالد محمد علي: الموسيقى لا تتجرّد عن الحس والقلب والعقل
حاوره: مرتضى الجصاني
يُعدّ الفنان الموسيقار خالد محمد علي من أفضل الذين وضعوا مؤلفات لآلة العود وآلات أخرى، ومن أوائل من كتب مؤلفات للعود والرباعي الوتري والأوركسترا السيمفوني, إذ نالت العديد من أعماله شهرة واسعة في العالم العربي وأصبح الكثير منها منهاجاً دراسياً لآلة العود وطلاب الموسيقى في العراق والبلدان العربية. بينما حصلت بعض مؤلفاته على جوائز دولية وشهادات تقديرية عدَّة، يعدّه المعنيون بشؤون الموسيقى أحد أهمّ عازفي العود والمؤلفين الموسيقيين في عصرنا هذا، إذ يمتلك أسلوباً متفرداً في التأليف والعزف يجمع بين القديم والحديث والارتجال، مع الحفاظ على الأصالة والتمسك بالتراث الموسيقي العراقي والشرقي، إضافة لعزفه آلة الكمان الغربي والشرقي.
* بداية نود أن نعرف أين يكمن مقياس إبداع عازف العود، في التأليف الموسيقي، أم في التكنيك والعزف والتقاسيم والارتجال، أم في تأليف السماعيات الموسيقية والقوالب الكلاسيكية؟
- الحقيقة أنَّ الإبداع يتضمّن كلّ ما ذكرت في السؤال، فعلى العازف أن يدرس التكنيك والعزف وكذلك التقاسيم والارتجال، والتقاسيم والارتجال يتطلبان وقتاً طويلاً في إتقانهما، لأنهما يتكونان نتيجة التراكم السمعي للمؤلف أو العازف فكلما سمع أكثر أخرج جملاً موسيقية أكثر، فعلى العازف أن يتسلح بكل هذه التفاصيل ويطرح موسيقاه، ومن ثم عليه أن يأتي بشيء جديد مبتكر، لأنَّ العازف إذا بقي على القوالب الموسيقية المعروفة حتى إذا كان عازفاً جيداً سيبقى في منطقة محددة لا يتقدم إبداعياً، ذلك لأنَّ المقياس هو النتاج الفني وطرح مادة موسيقية ذات قيمة فنية عالية وبنفس الوقت تكون جديدة، تنتشر بين المختصين والمتذوقين للموسيقى.
* في سماعي شد عربان (ألوان) هناك نوع من التجديد، حدثنا عن ذلك وعن هذه المقطوعة الموسيقية الخالدة.
- هنا العمل واضح من عنوانه (ألوان)، والمقصود به ألوان الموسيقى التي تجتمع لتكون قطعة مميزة، والتي تتكون نتيجة اطلاع المؤلف على ألوان موسيقية متعددة، وبصفتي عازف عود عراقياً مطلعاً على موسيقى الدول المحيطة بالعراق، كالموسيقى التركية والفارسية وموسيقى بلاد الشام وكذلك موسيقى الخليج العربي، إضافة إلى ذلك أنَّ موسيقى العراق نفسها هي موسيقى متعددة الألوان والأذواق، فهي تختلف من الشمال إلى الوسط وإلى الجنوب، فموسيقى الشمال تختلف كلياً عن موسيقى الجنوب وهكذا، وهذا الاختلاف موجود حتى في الأرياف وأطراف المدن كالأطوار الموسيقية الريفية والأطوار البدوية، وهذه مهمة أيضاً، لذلك حاولت تلوين هذه المقطوعة من خلال لمس كل لون من ألوان هذه الموسيقى المختلفة في مقطوعة موسيقية متناغمة.
* مقطوعة (انتظار) أيضاً لها فلسفة خاصة، هي تعبير حقيقي عن طبيعة الانتظار والترقب، كيف يحوّل العازف الشعور الحسي إلى صوت موسيقي؟
- كلنا نمر بحالة انتظار، كل إنسان يمر بحالة انتظار، والانتظار بحد ذاته صعب، حسب نوع الانتظار وطبيعته، وأنا قلتها في لقاءات سابقة إنَّ كل شيء في هذا الكون ينتظر حدثاً معيناً، هذا بالنسبة للجماد فما بالك بالإنسان، فالإنسان ينتظر حالة نجاح أو حالة ولادة أو ينتظر حبيبته.. إلخ، وهذا الانتظار إذا طال وتجاوز حدوده يتحوّل إلى حالة قلق وتوتر.. إلخ من المشاعر التي ترافق الانتظار كالحزن أحياناً والفرح أحياناً أخرى حسب حالة الانتظار، لذا على العازف ترجمة هذه المشاعر وتوظيفها في عمل موسيقي يجعل المتلقي يشعر بها من خلال سماعه الموسيقى فقط. هذا ما حاولت تطبيقه في مقطوعة انتظار.
* طالما تحدثنا عن مقطوعتي ألوان وانتظار، في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات كانت انطلاقة مهمة في تصوير أعمالك الموسيقية التي لاقت نجاحاً لافتاً وما زالت محط اهتمام، لماذا لم تتكرر تلك التجربة؟
- في وقتها أنتجت كاسيت (أوتار حائرة) وتضمّن مقطوعات عدَّة منها (ألوان، عيون شاردة، أوتار حائرة، التل والقمر، الخيال.. إلخ) والحقيقة كانت تمثل مرحلة عمرية محددة، حيث لكل عازف مراحل عمرية إبداعية، يقدم فيها موسيقاه وإبداعاته وابتكاراته وبالتالي لا أريد تكرار نفسي، أو تكرار تجارب سابقة، لذلك أحب البحث المستمر، البحث عن طرح جديد أو فكرة أو صيغة جديدة للتأليف تكون ذات فائدة، سواء للمتعلم أو للمتلقي وحتى للمؤلفين الموسيقيين، فمن خلال سماعي للمؤلف يمكن معرفة ثقافة المؤلف ومدى استماعه للموسيقى وأنواعها، وبالتالي دائماً أبحث عن الجديد دون تكرار التجارب، هذا الجديد أيضاً يحمل فكراً مختلفاً وتكنيكاً مختلفاً وصيغة مختلفة في التأليف، تتضمن المزج بين التراث والحاضر بأشكال مبتكرة ومختلفة.
* عن المدرسة العراقية في العود، هل ترى أنها امتداد للمدرسة التركية، أم انفصلت تماماً عنها عن طريق المزج بين التأمل وقليل من الطرب؟
- المدرسة العراقية في العود هي امتداد للمدرسة التركية، ذلك لأنَّ مؤسسها الشريف محي الدين حيدر هو عازف عود تركي فهو المؤسس لمدرسة العود، ومن ثم تلاميذه الأوائل جميل بشير، سلمان شكر، منير بشير، غانم حداد.. إلخ، حاولوا المزج بين اللون التركي والموسيقى العراقية من مقامات وأطوار ريفية وغيرها، فكل عازف منهم كان يعزف الأسلوب التركي وأيضاً الموسيقى العراقية بتفاصيلها، فتكون نتيجة ذلك خليطاً موسيقياً، توارثته الأجيال اللاحقة في تكوين أسلوب خاص لكل عازف، للتخلص من قوقعة الأسلوب الواحد، والمدرسة التركية هي أيضاً ذات تأثير واضح في الموسيقى العراقية خصوصاً في مدينة الموصل بحكم الموقع الجغرافي، فهذا بالضرورة سيلقي بظلاله على العازف، وكوني ابن مدينة الموصل لمست ذلك جلياً من خلال تأثير الموسيقى التركية في المدينة. بالتالي تكونت مدرسة عراقية لها أسلوب مختلف، سار عليه أغلب عازفي العود في العراق.
* وفي الأصل هل هناك مدارس لعزف العود أم هي طُرق للعزف فقط؟.
- نعم هناك المدرسة المصرية والمدرسة الشامية التي هي قريبة من أسلوب المدرسة المصرية، وكذلك هناك المدرسة الخليجية وهي مختلفة بموسيقاها، إضافة للمدرسة العراقية والتركية والفارسية، لكل مدرسة أسلوبها وأساتذتها وطريقة عزفها.
* يقول بيتهوفن “من يفهم موسيقاي ينجو” هل ترى الموسيقى بهذا المعنى الفلسفي أم هي حالة لا تفسير لها بين الحس والقلب والعقل؟
- الموسيقى لا تتجرد عن الحس والقلب والعقل، لأنها نابعة من داخل النفس وخصوصاً عند الموسيقيين الكبار مثل بيتهوفن فهي نابعة من مكنون نفوسهم، والموسيقى الكلاسيكية مدرسة عظيمة وعريقة للأسف نحن كشرقيين لا نستمع كثيراً لهذا النوع من الموسيقى إلا بعض الموسيقيين المهتمين، وبصفتي عازف آلة كمان وكذلك آلة عود درست العزف على الكمان الغربي وكذلك الشرقي، بالتالي درست الموسيقى الغربية، وهي ذات فائدة للعازف أيضاً تعطيه الخبرة والقوة في التكنيك والتعبير والإحساس، فما يقوله بيتهوفن صحيح بدليل المستمع لموسيقاه يشعر بعوالم مختلفة وبحالة من الارتياح النفسي والروحي.
* نود الحديث عن صناعة العود بصفتها صناعة ذات نكهة وتفرد ولها (أسطواتها) إذا صح التعبير، في العراق ظهر الكثير من (أسطوات) صناعة العود بدءاً من (الأسطى) علي العجمي وابنه وبعده محمد فاضل وأولاده أيضاً وفوزي منشد وغيرهم.. بماذا يتميز العود العراقي شكلاً وصوتاً؟.
- العود العراقي متميز عن جميع الأعواد في العالم، ذلك لأنه يستخدم الأوتار السحب التي يتمّ تثبيتها في نهاية العود، أو ما يسمى (بالغزالة المتحركة)، الذي اقترحه الموسيقار منير بشير على (الأسطى) محمد فاضل، والذي عزف به منير بشير طيلة حياته، والآن أغلب العازفين يفضلون هذا النوع من الأعواد، بسبب متانة العود وعدم تأثره بالتغيرات المناخية، وأنا كعازف أفضل العود السحب على عود الغزالة الثابتة، لأنه يمكن التحكم به حتى مع تغيرات المناخ من رطوبة أو غيرها، حيث عادة يكون معي عدة غزالات للعود، أقوم بتغييرها إذا استدعت الحاجة في حالة السفر أو الحفلات، وهذا ما حدث معي في حفل قرطاج في تونس بوجود الأخ يعرب محمد فاضل، حيث كانت هناك موجة رطوبة مما جعل أوتار العود تلتصق على وجه العود، ولأنَّ العود سحب كان من الممكن التوصل إلى حل مؤقت عن طريق رفع الغزالة ببعض المواد الخشبية البسيطة.
* مؤخراً حصلتم على شهادة الدكتوراه في الموسيقى عن مجمل أعمالكم الفنية، وبالتأكيد هي تستحق لما تحمل من رصانة فنية وعمق تجديدي، السؤال هو عادة الأعمال التي تحمل عمقاً حقيقياً تبقى نخبوية مقتصرة على المختصين والمتذوقين للموسيقى، كيف يمكن إيصال العمل الموسيقي الرصين إلى المستمع؟
- أنا كعازف لا أفكر بتأليف موسيقى خاصة بالنخبة بل على العكس تماماً، غالباً أفكر في المتلقي العادي بحيث تصل له الموسيقى ويستطيع الاستمتاع بها، وعادة تبدأ المقطوعة الموسيقية من الأوتار الغليظة أو الپاص ومن ثم نتصاعد بها إلى أن تتألق الموسيقى، فهي أشبه بطائرة تقلع من الأرض وتصعد تدريجياً إلى السماء، ثم تحلق وتصنع حركات جميلة ثم تهبط على الأرض، هكذا هي الموسيقى أيضاً، مما يجعل المستمع العادي يطرب لها ويستمتع، وهذا لمسته أكثر من مرة مع مستمعين لمؤلفاتي الموسيقية وهم يخبرونني عن انطباعاتهم عن المقطوعات التي تذكرهم بمكان أو تثير لديهم ذكريات لطيفة وجميلة.
* البعض يرى التجديد مجرد تغيير شكلي للعود، كأن يضيف وتراً أو يزيد طول زند العود أو تغيير في جسم العود أو الفرس أو البنجق... إلخ ويبررون ذلك بأسباب فنية طبعاً، بينما نادراً ما نرى التجديد يكون في الموسيقى نفسها هل ذلك بسبب صعوبة التجديد ضمن القوالب الموسيقية؟
- الذين سبقونا في مجال الموسيقى حاولوا كثيراً من حيث الإضافة والتغيير في الشكل أحياناً، لكنهم يرجعون في النهاية إلى شكل العود الأصلي الذي هو عليه اليوم، والعود منذ مئات السنين هذا شكله بخمسة أوتار، ثم أضاف الشريف محي الدين حيدر الوتر السادس من جهة القرار أي الأوتار الغليظة، غير أنَّ استخدام الوتر السادس كان بسيطاً وقليلاً، وغالباً يستخدم لأغراض جمالية في صياغة الجمل الموسيقية، وأحياناً نادرة للنزول في طبقة القرار، وظهرت محاولات كثيرة في مجال التجديد سواء من حيث شكل العود أو الأوتار لكنها فشلت، كما أضاف بعض الموسيقيين أوتاراً إضافية، لكن من جهة الـSoprano، والحقيقة أنَّ الموسيقى العربية لا تملك مقامات كثيرة في طبقة الـSoprano، مما جعل صوت العود أشبه بالماندولين أو البزق.. إلخ من الآلات الحادة الصوت، بينما ما يميز العود هو صوته الرخيم، لذلك بإضافة هذه الأوتار يفقد العود ماهيته ويصبح آلة أخرى. لذلك على عازفي العود أن يقتنعوا بشكل العود وأوتاره وأن يتعاملوا معه بهذا شكله، وأن يكون التجديد والإبداع في الموسيقى من خلال إنتاج موسيقي يشار له كمنجز إبداعي، خصوصاً وأنَّ موسيقانا تحمل نغماً تأملياً، وجدانياً، صوفياً، مليئاً بالمشاعر والأحاسيس، لأنَّ مسألة إضافة الأوتار أو تغيير شكل العود تتطلب وضع برنامج جديد لتدريس عزف العود وفق الإضافة الجديدة، وليس مجرد إضافة شكلية ويترك الأمر مفتوحاً، وهذا أمر ليس عملياً.