وليم ماكسويل
ترجمة جودت جالي
قال الرجل العجوز عند معبر السكة لكل شخص يأتي في ذلك الطريق: “ ابتهج”. كان طاعن السن وكل حياته مليئة بالمشاكل، ولكنه كان لا يزال قادرا على أن ينزل الحاجزين ليمنع الناس من العبور عندما يكون القطار متوقعا، ويرفعهما مرة أخرى عندما يمر القطار بدوامة من غبار وضجيج يتلاشى مع ابتعاده. إنها مجرد مسألة وقت قبل أن يكون ليس عجوزا فقط بل طريح الفراش أيضا، وهكذا كان الناس صبورين معه ويعذرون عادته القول: “ابتهج”، على أساس أنك إذا كنت بهذه الشيخوخة فإن أوكسجينا كافيا لا يمكنه أن يصل إلى دماغك.
غير أنه من المثير للاهتمام، كم اختلف الناس في رد فعلهم على تلك الملاحظة الوحيدة، فأولئك العاكفون على جمع المال، أو تملأ رؤوسهم أحلام السلطة، أو مجرد منشغلين، لم يسمعوه حتى. إن المراقب شخص كان يفترض أن يقوم بحراسة معبر السكة وليس إخبار الناس كيف يتوجب عليهم أن يشعروا، ولو كان يوجد مكانه شيء كمراقب خشبي أو آلي لكانوا راضين الرضا نفسه لوجوده. أولئك الذين يهتمون بالسلوكيات الحميدة كانوا مربَكين لوضع العجوز وفكروا بأنه من الألطف تجاهل حالته المرضية. وأولئك الطيبون حقا، ولكنهم ليسوا متقدمين في السن، وليسوا معتادين على مشكلة كهذه قالوا “ شكرا لك” بكياسة، وعبروا، من دون أن يعرفوا في الأقل ما الذي قصده. أو ربما كانوا فحسب مقتنعين بأنه لم يقصد أي شيء، ما دام يقول الشيء نفسه منذ فترة طويلة بغض النظر عن المناسبة أو الشخص الذي قيلت له.
قال بوقار “ ابتهج، ابتهج” وهو ينظر في وجوههم. لم يكن الأطفال مربكين طبعا ولم يحاولوا أن يكونوا لطيفين. ضحكوا ضحكا شبه مكبوت وقالوا :” لماذا؟”، ولم يتلقوا جوابا، وهكذا سألوا سؤالا آخر:” هل أنت مجنون؟”، فوضع يده على رؤوسهم وابتسم، غير أن هذا لم يجعلهم أكثر تعقلا.
لكن امرأة مرت به ذات يوم، امرأة لطيفة المظهر بشعر رمادي وغضون في وجهها، ولا يظهر عليها أي اهتمام بسلطة أو مال أو تبدي لطفا هو مجرد لطف ولا يأتي من القلب، ولا حتى رغبةً في أن تكون مهذبة من أجل أن تبدو مهذبة، وعندما قال الرجل العجوز :” ابتهجي”، توقفت ونظرت إليه بتفكر ثم قالت :” لا أعرف كيف”، ولكن ليس بنزق بل كان جوابها مجرد تصريح.
عندما مر القطار ورفع العجوز الحاجزين وقفت هناك بدلا من المضي كالآخرين، كما لو كان لديها ما تقوله، ولكن لا تعرف كيف تقوله. أخيرا قالت : “ هذه السنة كانت الأسوأ وتعادل نصف حياتي. أظن أني أتجاوزها أخيرا. لكنها كانت صعبة جدا”. قال العجوز “ ابتهجي”. سألت المرأة: “حتى مع هكذا حال؟”، وأضافت: “ حسن. قد تكون محقا. سأحاول. لقد أعطيتني شيئا للتفكير فيه. شكرا جزيلا لك”، ومضت في الطريق.
بعد هذا اليوم بفترة قصيرة ظهر مراقب جديد عند المعبر، شاب بادي النباهة، يمس قبعته تحية لأولئك الذين يكدسون السلطة أو المال، وينحني بكياسة للذين يقدرون التصرفات الحسنة ويشكر لطفهم ويقول للأطفال: “إذا تسكعتم حول معبري ستتمنون لو أنكم لم تفعلوا”، وهكذا أحبوه كلهم وشعروا بأن تغييرا حدث في المعبر نحو الأحسن.
ما حدث هو أن العجوز لم يستطع النهوض من فراشه، ومع أنه يشعر كما كان يشعر في السابق بالضبط، إلا أنه لا توجد قوة في ساقيه، وهكذا انطرح هناك يتوجب إطعامه وحلاقة شعره وتغيير وضعه في الفراش والعناية به كطفل رضيع، عاش مع ابنته التي كانت مدبرة منزل قذرة ولديها أطفال أكثر مما يمكنها العناية بهم، وزوج سكير يضربها، والشيء الوحيد الذي جعل حياتها ممكنة هو أن والدها كان خارج البيت طوال اليوم يراقب معبر السكة، وهكذا حين جلبت له بعض العصيدة إفطارا لذلك اليوم قال: “ابتهجي”، فزمت شفتيها متجهمة ولم تقل شيئا. عندما جلبت له شيئا إضافيا من العصيدة لغدائه كانت جاهزة للتعامل مع الوضع، فقالت وهي واقفة عند رأسه وقد بدت له في غاية الطول: “ أبي، لا أريد أن أسمع تلك الكلمة مرة أخرى. إن كنت لا تستطيع قول شيء غير ابتهجي فلا تقل شيئا، هل تسمع؟”، وفكرت بأنه فهم على ما يبدو، ولكن عندما جلبت له عشاءه، قالها مجددا، وفي فورة غضبها صفعته، صفعت أباها. تدفقت الدموع من عينيه إلى أسفل خديه المجعدين، ونظرا إلى بعضهما البعض كما لم ينظرا منذ أن كان شابا وكانت هي فتاة صغيرة تتقافز وهي تسير معه. ذاب قلبها للحظة، لكنها فكرت عندئذ كم كانت حياتها قاسية، وأنه يزيدها قساوة وهو يحيا هكذا في حين أن الآن هو الوقت المناسب لموته، فاستدارت خارجة من الغرفة من دون أن تعتذر منه. وبعدها تجنب الرجل النظر إلى عينيها ولم يقل شيئا على الإطلاق.
مدت رأسها من الباب ذات يوم وقالت: “يوجد شخص جاء لرؤيتك”.
كان ذلك الشخص هو المرأة رمادية الشعر. قالت له: “ سمعت أنك لست على ما يرام”، وعندما لم يقل العجوز شيئا تابعت كلامها: “عملت هذا الحساء لعائلتي وفكرت بأنك قد تحب تناول البعض منه، إنه مغذ جدا”. نظرت حولها ورأت أن ابنته قد غادرت فجلست على طرف الفراش وأطعمته الحساء. تبين لها من الطريقة التي أكل بها الحساء والطريقة التي استعاد بها وجهه لونه، أنه كان جائعا جدا. بدت الغرفة المظلمة أنها لم تكنس في يوم الأحد منذ شهر، ولكنها كانت أكثر فطنة من أن تقوم بتنظيف بيت امرأة أخرى. أرضت نفسها بترتيب الملاءات كما ينبغي وتعديل الأغطية وتسوية الوسادة خلف رأس الرجل العجوز، وقد بدا عليه الامتنان لها، مع أنه لم يقل شيئا. قالت: “علي الآن أن أذهب”، ولكنها لم تذهب، وبدلا من ذلك نظرت إليه وقالت: “ لم تتحسن الأشياء أقل تحسن، بل هي أكثر سوءا. أنا حقا لا أدري ما سأفعل”. وعندما لم يقل ما توقعت أن يقوله توقفت عن التفكير في نفسها وفكرت فيه. قالت: “ لا أهتم بالمراقب الجديد على المعبر. إنه يقف يتحدث إلى الفتيات بينما يتوجب عليه إنزال الحاجزين، وأخشى أن يدهس القطار طفلا”.
لكن بدا أن هذا لا يهمه، وسرعان ما عرفت السبب. كان الموت هو الذي في باله، وليس معبر السكة. موته هو، وكيف يمكن ملاقاته. ورأت أنه يشعر شعورا رهيبا بالوحدة. أخذت يده العجوز الواهنة بين يديها وقالت: “ لو أني أستطيع فقط تجاوز هذا اليوم ربما تكون الأمور أفضل غدا. لكن على أية حال سآتي لرؤيتك، لرؤية كيف هو وضعك”، وبعدها من دون أن تعرف أنها ستقولها بل كانت تفكر فقط بأنه لم يكن لديه الكثير لينتظره قالت ما اعتاد هو قوله عند معبر السكة، لكل شخص جاء في ذلك الطريق.
The Old Man at the Railroad Crossing and Other Tales, William Maxwell . 1957
* وليم ماكسويل (1908 - 2000) محرر الشؤون القصصية في مجلة ذي نيو يوركر لأربعين عاما تقريبا، ومنذ وفاته أخذ عمله الأدبي الخاص يحظى بتقدير عال. حرر للعديد من الكتاب المعروفين في القرن الماضي بضمنهم ناباكوف، وأبدايك، وسالنجر، وتشيفر، وغالانت، ويودورا ولتي، وباشيفيس سنغر. تزوج الرسامة إيميلي واستمر زواجهما خمسة وخمسين عاما، وقد توفي بعد أن توفيت بثمانية أيام.