آني ما اشتغل عندك!

الصفحة الاخيرة 2024/10/27
...

محمد غازي الأخرس
ومما تتميز به ثقافتنا الاجتماعية احتقار العمل في بعض المهن كبيع المخضر أو الوقوف في الشارع على عربة لبلبي أو العمل في مطعم والخ. إننا في دواخلنا نحتقر هذه المهن ونتكبر على أصحابها، بل نأنف من تزويج بناتنا بمن يعمل بها، مشترطين بمن يتقدم لنا أن يكون ذا شهادة أو موظفاً أو تاجراً. الذريعة هي ضمان الوضع الاجتماعي لبناتنا وصون كرامتهن مستقبلا. إلا أن منبع الظاهرة لا يعود لهذا فقط، بل هو امتداد لنسق ثقافي عربي ما زال شغالا وأشير له كثيرا، فالعرب كانوا يحتقرون الصنائع احتقاراً شديداً، ويعتبرونها سبة على من يكسب ماله بغير السيف. وقد تحدث ابن خلدون عن هذا قائلا إن العرب أبعد الناس عن الصنائع، بسبب أنهم أعرق في البدو، وأبعد عن العمران الحضري، وما يدعو إليه من الصنائع وغيرها. وتكرر الرأي عند العديد من الباحثين من بعده كأحمد أمين وعلي الوردي وجواد علي وحافظ وهبة. يرى أحمد أمين أنّ العرب سكنوا في صحراء تصهرها الشمس، "ويقل فيها الماء ويجفّ الهواء، فكانوا في جزيرتهم أحراراً كإقليمهم، لم يحبسهم زرع يتعهدونه ولا صناعة يعكفون عليها". أمّا حافظ وهبة، صاحب الكتاب الشهير عن أعراب الجزيرة، فيقول إن الصناعات على اختلافها معدودة من المهن الخسيسة التي تحطّ من قدر صاحبها العربي، لهذا فالذين يحترفون هذه الصناعات يكونون عادة من غير العرب أو من العرب الذين لا ينتمون إلى أصول مشهورة. ومما يدل على احتقار الصناعات ألفاظ السباب المعروفة بين العرب كقولهم إذا أرادوا تحقير إنسان: يا ابن الصانع، وهو امتداد لشتيمة استخدمها الجاهليون هي: يا ابن الفاعلة. في العراق نقول لمن نريد تحقيره: آني ما اشتغل عند أبوك، وهي شتيمة تضمر احتقارا رهيبا للعمل، ولنا عودة.