د. كريم شغيدل
في تسعينيات القرن المنصرم كانت الصدمة مركبة لجميع الأجيال، خوض حرب جديدة غير متوقعة، انهارت من خلالها مختلف الثوابت الأيديولوجية التي بنيت على ما تبقى من الحسِّ القومي، فضلا عن الثوابت الأخلاقية لمعاني الجوار والأخوة، فبين ليلة وضحاها أصبح العراق دولة محتلة لدولة جارة عضو في الأمم المتحدة، في واحدة من أبشع عمليات القرصنة السياسية والعسكرية، ثم بعد ذلك تدهور المؤسسة العسكرية التي تشكل نوعاً ما بعداً رمزياً لقوة المواطن العراقي ومنعة البلاد، ثم اندلاع أحداث الانتفاضة الشعبية التي أسقطت رهانات السلطة وأسهمت بزعزعة النظام واختراق حاجز الخوف، ثم بعد ذلك تداعيات الحصار الاقتصادي وما خلفه من انهيار قيمي ومخلفات كوارث إنسانية، وهجرة غير مسبوقة للبحث عن لقمة العيش في دول الجوار، ثم طلبات اللجوء الإنساني والسياسي لمختلف البلدان.
بمعنى آخر أنَّ مفردات جديدة وظواهر طارئة دخلت إلى حياتنا اليومية، وخلال ذلك وجد الشاعر نفسه في عزلة، وأمام خيارات محدودة خانقة، الجوع والعيش على حافة الهامش أو الهجرة أو الانخراط في صفوف شعراء السلطة الذين راحوا يتسابقون على الألقاب والمكرمات التي يمنحها الدكتاتور المهووس بأمجاد البلاط العباسي، وعلى الرغم من قسوة المعاناة، كان ثمة جيل بدأ يتشكّل، وشعراء ثمانينيون وسبعينيون راحوا يغادرون أجواء النصوص السابقة، فقد وفَّرت مآسي الحصار حكايات يومية صادمة وخارقة للمألوف، وقد استغل الشعراء فرصة الترويج الإعلامي لإدانة الحصار الدولي، لتمرير مآسي الجوع والخذلان والانكسار النفسي، على أنَّ الواقع المرير الذي عاشه العراقيون آنذاك، لم يعد بحاجة إلى تزويقات شعرية ليحقق نصاً تعبيرياً صادماً.
الانعكاس البنيوي كان واضحاً على النص الشعري، فقد انسحبت النصوص التهويميّة المفتوحة لصالح نصوص مكثفة تعتمد المفارقة الشعريّة المستمدة من مفارقات الواقع، وحتى النصوص الطويلة التي أنتجتها تلك الحقبة قد غادرت صنعة الغموض والإيحاء والتراكيب النحويّة المقعرة وما حفلت به نصوص الثمانينيات وجاءت اشتغالاتها أقرب للواقعيّة، بل إنَّ الذائقة الأدبيّة لم تعد تحفل بذلك النمط بعد أن فقد مبرراته الثقافيّة، وبدأ الوسط الثقافي يتفاعل مع نصوص جديدة صغيرة الحجم شديدة الإدهاش، واضحة ويسيرة التراكيب، على الرغم من أنَّ بعض الشعراء استغرقوا كثيراً في المفارقات اللغويّة ولم يغادروا منطقة اللعب المفتعل على جمل الإسناد، باجتراح علاقات متنافرة، وهنا ربما أصبح النص الشعري أكثر حساسيّة بإزاء الواقع، بل أكثر خطورة لاحتمالات وقوعه في اليومي الدارج أو المبتذل والتكرار ذلك أنَّ "في أحد جوانب معضلة الصلة بالواقع وتمثله وترميزه داخل النص، تبرز مشكلة تحويل الواقعة الخارجية- المنضوية تحت سلسلة وقائع يوميّة- الى واقعة فنيّة تقبلها أبنية الأعمال الأدبية ونظم القول.." كما يقول حاتم الصكر، وفعلاً كانت هذه هي المعضلة أمام نصوص الحقبة التسعينية، إذ كيف للنص أن يكون واقعياً وتعبيرياً ورمزياً ومؤثراً ومدهشاً وهو يتعامل مع واقعة يوميّة مستهلكة، أي أنَّه ابتعد عن أن يعالج موضوعات كونيّة أو أزليّة، كموضوعات الموت والحياة والوجود والروح والحب، كما أسقط احتمالات التعامل مع الأغراض التقليدية المتوارثة للشعر العربي، كالحماسة والمديح والرثاء والهجاء والغزل، لكن على المستوى المعرفي كانت مقولات جان كوهين ورومان جاكوبسن حاضرة، كذلك مقولات كمال أبو ديب، بمعنى آخر ثمة وعي جديد لمفاهيم الشعرية بدأ يتبلور، وثمة تمثل نصي لمفهوم الانزياح، والفجوة مسافة التوتر، أو يكون الأدب " تجاوزاً منظماً على الكلام العادي" كما يقول جاكوبسن.
إذا كان الغموض الذي تلبَّس وعي المجتمع إبَّان حقبة الثمانينيات مبرراً لغموض النص الثمانيني، فإنَّ الحرب قد أنتجت وضعاً اقتصادياً ارتجالياً يعتمد على ظاهرة الإفراط أو التبذير، حركة اقتصادية غير تنموية مبالغ في نفقاتها، الأمر الذي انعكس في تقديرنا على لغة النص الجديد، فجاءت مفرطة في الشكل البصري المتراكم أو المتصل (سطور كاملة من دون تقطيع) وتبذير ملفت في اللغة، على العكس من ذلك انعكست حالة العوز الاقتصادي على بنية النص التسعيني، إذ أصبح الشاعر مقتراً في اللغة وفي الفكرة، وهذا التقنين كرّس ظاهرة التكثيف الشعري، وأعاد للقصيدة بعض تقنيات الحذف البلاغي والتلميح والإيحاء الجمالي بأقل الكلمات وأيسر التراكيب، وقد جاءت ظاهرة الاستنساخ التي تدخل في مجال صناعة الثقافة تجسيداً للفقر الحضاري الذي أصاب البلد نتيجة الحصار، كما أنَّ بعض التجارب عكست من خلال تحوير التراكيب الدارجة والتلاعب بالألفاظ، حالة الصناعات المعادة أو الملفقة، إذ جاءت بعض التراكيب الشعرية بصيغة مفارقات دارجة (قفشات) أو ما يسمى بـ (التحشيشات) في العامية، وهي عبارة عن ألعاب لفظية وفدت من الأفلام والمسرحيات المصرية وانتقلت مؤخراً إلى الشعر العامي، وتحديداً إلى(الأبوذية) بحيث يتم استعمال لفظ مشابه للفظ آخر يختلف عنه في المعنى يزج في تركيب ينتمي للفظ الثاني.
لم يكن النسق المؤسساتي/ الأيديولوجي بعيدا كلَّ البعد عن التحولات المتواصلة، بل كان للمؤسسة حيلها الثقافيّة للالتفاف على الخطاب المعارض، فعلى أيام الحرب مع إيران كانت الآلة الإعلاميّة قد سخرت مختلف قنواتها لأناشيد الحماسة وقصائد المديح الفصحى والعامية، كما وظفت المهرجانات ذات الطابع القومي، كمهرجان الأمة ومهرجان المربد، وسعت لكسب العديد من الأصوات الشعرية الفاعلة في الإعلام العربي، ما جعل النص التقليدي المؤدلج بصورتيه العمودي وشعر التفعيلة، طاغياً، وبخلفية حماسية شاحنة لأجواء القتال، من خلال أناشيد الحرب والشعر العامي الذي أصبح مهرجاناً يوميّاً مفتوحاً، فضلاً عمّا سمي بمسابقات (قادسية صدام في الأدب)، أما الأمر الآخر فهو ترويج فكرة مضادة مسبقة عن الشعر الجديد، بكونه لا يمثل تراث الأمة، ويحمل نوايا تخريبية، وأنَّ الشعراء الجدد يجهلون تقنيات الشعر العربي من أوزان وقوافٍ وأنَّهم لا يجيدون اللغة العربيّة وأنَّ شعرهم مجرد هذيانات لا معنى لها، ومن حيل المؤسسة أنها شجَّعت بصورة غير مباشرة ظاهرة الغموض لتمويه خطاب الضد الذي تبنته النصوص، ولذلك سمحت بمرور بعض النصوص عن طريق وسائل إعلامها، وعادة هي من نوع النصوص التي لا تقول شيئاً، أي لم تكن الرؤية المعارضة واضحة فيها، وليس فيها ما يدل مباشرة على التحريض أو التمرّد، وقد مرر الشعراء نصوصهم الواضحة في حقبة التسعينيات على أنها إدانة للحصار الاقتصادي.