علي الياسري
"هو الذي رأى كل شيء فغني بذكره يا بلادي
"هو الذي خبر جميع الأشياء وأفاد من عبرها
هو الحكيم العارف بكل شيء
لقد أبصر الأسرار وعرف الخفايا المكتوبة"
(اللوح الأول من الملحمة)
ضمن سلسلة الانمي فيت غراند أوردر، كان الفصل السابع "الجبهة الشيطانية المطلقة: بابل"، الأفضل وفقاً لآراء الكثير من المتابعين والمهتمين بهذا النوع الفني من الرسوم المتحركة، لما فيه من إلهام درامي أظهره بجلاء اقتباس الأساطير الرافدينية وشخصياتها المثيرة بتفاصيلها الحياتية وأفكارها وأحاسيسها ومحمولها
المعرفي.
قصة الإرادة البشرية بمواجهة تحديات الآلهة والصراعات التي تخلقها بطريقها، كما جسدتها ملحمة گلگامش. تتوافق مضامين الأسطورة مع السياق العام لفكرة السلسلة التي تتحدث عن مسعى منظمة كالديا السرية للحفاظ على استمرار الوجود الإنساني من الإنقراض بفعل الفوضى والدمار لقوى سحرية للكؤوس المقدسة في تفردات زمكانية مختلفة وذلك من خلال إرسال شخص وخادمه، يمتلكان بعض القوى الخارقة لإصلاح الأوضاع ومحاربة الشر واستعادة الكؤوس.
في مدينة الوركاء أصل الحضارات ومدينة الآلهة، حيث مملكة گلگامش الذي يستدعي بقدراته كنصف إله وحامل ألواح القدر والكأس المقدسة أرواح الأبطال الأسطوريين للمساعدة في قتال تحالف الآلهة، الذي تترأسه تيمات الآلهة الأم والغاضبة على البشر فترغب باستبدالهم.
من المدهش كيفية استثمار الأنمي لتفاصيل الأساطير السومرية وغناها بالإصرار وروح التحدي لمواجهة الخطوب والتفوق على القدرات الفردية بالفعل الجماعي كما توضحه ملحمة "كلكامش" الذي بنى أسوار الوركاء وحصنها ووضع لها النظم والقوانين وقدم الحرية الإنسانية بموازاة العمل والاجتهاد من دون الإخلال بمفهوم الديمقراطية، وفقاً للرؤية الگلگامشية التي تضع المخاطر العالية بكفة وبالكفة الأخرى خيار المقاومة أو الاستسلام. كل ذلك يلتقطه الأنمي ببراعة شاملاً تفصيلات العمارة السومرية والبابلية، طبيعة العيش والعلاقات الإنسانية، الأسواق والتجارة. التقدم السلوكي والمعرفي وقدرة العقل العراقي القديم على الابتكار والصمود في سلسلة المعارك المضنية مع القوة الجبارة
للآلهة.
تتجلى سطوة شخصية گلگامش بكل محمولها التراثي لنموذج الإنسان، كما رسمت ملامحه الأسطورة والميثولوجيا الرافدينية، حازماً مترفعاً بثقة العارف، ممتلكاً لنواصي الأمور بتراكمات أثر الحكمة وتفاعلات الغضب والإصرار على الاستمرار في التحدي
الصعب.
يبدو الأمر محفزًا ومُلهمًا، كيف يُقرب الأنمي شخصيات تملأ تاريخنا وإرثنا الحضاري بزخم فني جاذب وبالغ التأثير - والذي ما زلنا لا نعرف منه سوى نتف عامة- إلى المتلقي ببراعة يتضح منها الجهد الكبير المبذول في صياغة القصة والتنقل بين المدن كأريدو واور وغيرها ثم التقاط الحوادث واستثمارها بنسيج يمزج بين أيقونات ساحرة من عوالم مختلفة حين تتردد أسماء سيدفع بناؤهم السردي المتقن ضمن الشكل الدرامي للسلسلة إلى اغناء معلوماتك أكثر، فترى سيدوري وحكمتها، وتجذبك عشتار بنزقها وغنجها وخيلائها الممتع وروح الألفة والدعابة التي تجعلها ساحرة التأثير.
وترى الوحوش الأسطورية، كما جسدها الإنسان العراقي القديم قبل أن تقف بين الفكاهة والاندهاش من مخلوقات اللخمو، بينما أيرشكيغال آلهة العالم السفلي تقتفي مرويات الأساطير عنها وغضبها لوضعها، و أنكيدو يتحرك على إضافة جوهرية لحكايته القديمة حين تستعيده الآلهة الأم لتنفيذ مآربها في صراعها مع گلگامش وهو ما يُعيد إلى الذاكرة النهج الدرامي الذي فعله اليابانيون مع مسلسل الكارتون (سندباد) حين تم توظيف القصص الرئيسة للسندباد ضمن حكايات الألف ليلة وليلة وربطها بحالات أخرى مثيرة وممتعة مثل الحصان الطائر والبساط السحري وغيرها. فالوحدة السردية التي تقدمها هذه الحكايات تمنح المستثمر لها فسحة كبيرة من خيال منتظم ومتناسق بمتوالياته الفنتازية والسحرية والقوى الخارقة للطبيعة.
يقدم الأنمي وفقاً لصياغة يابانية تقليدية لشكل الرسوم إطلالة ملحمية سومرية ارتكز عليها بناء الوجود والحضارة الإنسانية، تنهل من أفكار الحرية والإرادة والخلود والتضامن والالتزام الأخلاقي ونوازع النفس بين الشر والخير والهم الإنساني وشكوكه بما يخرج في النهاية بخلاصة حكمة أن الإنسان هو الخليفة وسلطان الوجود وهو سر الحياة
المستدام.
يتبع