أم

ثقافة 2024/10/29
...

 حسب الله يحيى

                                                 

كانت المرأة الوحيدة التي بقيت في الحي..

هاجر الجميع، تركوا منازلهم.. وهربوا إلى المجهول..

البعض قصد قريباً في مدينة أخرى، والبعض الآخر استأجر غرفة في مدينة أخرى كذلك.

استقروا في مكان ما، على أمل العودة إلى بيوتهم.. لكن (أم زاهد)، بقيت وحدها رافضة كل العروض التي قدمت اليها للانتقال إلى مكان آمن.

- لا أمان لي إلا في بيتي.

لكن المكان مهدد بالدمار.. جدران بيتك لن تحميك.. أنت لست في مكان آمن؛ يقول لها جيرانها، يقول لها بعض الأقارب المحيطين بها.. لكن (أم زاهد) تصر على الرفض.

زاهد.. وهو في عز شبابه، احترم خصوصيتها، وضحى بشبابه وبقي في المكان الخطر.

- أمي.. لا قدرة لي على تركك وحيدة.. ليكن مصيرنا واحدا.

- زاهد.. ابني، الأعمار بيد الله.. وهذا المكان عزيز عليَّ، وليس بي قدرة على قطع الصلة به.. هنا صورة والدك، وهناك شجرة التين التي كان يرعاها كما لو كانت ابنته، هنا كان سريره، وهناك كانت كتبه الأثيرة واقلامه وذكرياته.. هنا كنت أعلق قميصه، وهناك كنت أضع له كرسيه أيام المطر وهو يرقب قطراتها. وهناك تحت ظل شجرة الزيتون، كان ينقل كرسيه عند العصر.. ويستمع إلى أصوات العصافير وهي تعود إلى أعشاشها التي تبنيها فوق شجرة باسقة للورد الجهنمي.. لكنه اضطر تحت ضغط جيرانه الذين لم يطيقوا ضجة العصافير وهي تستيقظ كل فجر، وهي تعود إلى موطنها كل مساء.. كان يقول: للعصافير حقها في أن تكون حرة، لكن سلطة الجيران الأقوى من كل الأصوات، كان لهم الغلبة، وكان لوالدك حزنه العميق وهو يقطع أغصان الجهنمية، كما لو أنه كان يقطع أجزاء من لحمه.. ينصت (زاهد) اليها.. يقول:

- لكننا سنموت تحت القصف العشوائي، وستموت معنا كل الأشياء، كل الصور والذكريات.. ستتكسر الكراسي، كما عظامنا، ستجف شجرة التين وتموت وهي ظمأى.. ولن يكون هناك لون بنفسجي للجهنمية، ولا عش لعصفور، ولا صوت لعصفور آخر، ولا قفزة حرة لعصفور ثالث.

تتأمله (أم زاهد)، زاهد كل ما تبقى لها من الحياة، وليس لها من أحد يجعل قلبها ينبض سواه، تقول:

- زاهد.. يا ابني، أن نموت معاً، أنا وأنت وشجرة التين والعصافير والكرسي والجهنميَّة والكتب.. هذا كله أفضل بكثير من العيش دونها، ومن البقاء ونحن في حسرة وشوق حميمي إليها.. الموت عذاب يا ابني، أن نموت ونحن نخبئ ذكرياتنا في الصميم من أرواحنا، بدلاً من أن نتركها هكذا عرضة للريح، للنسيان، للدمار، للإهمال في أحسن الأحوال.. عندما لا تكون هناك أحوال أصلاً.

**

كان القصف يتسع، وومضات الأسلحة تبرق في ليل أطفأت فيه كل النجوم أضواءها، كما لو أنها اختنقت بأضوائها كمداً.

وفي العتمة كان الشتاء يبحث عن دفء في أحضان زاهد وأمه.. كان الشتاء يبحث عن جمرةٍ ما، عن خشبة تحترق ليدفأ وينام في الأحضان.. ويلتف داخل فراش بارد!

كسر زجاج النافذة، تناثر الزجاج واحتمى بأوراق الكارتون التي كانت تحول من دون دخول الضوء والهواء معاً.

قالت: ما قيمة الحياة عندما لا يكون هناك.. لا ضوء، ولا هواء؟!

قال زاهد: أنت من اختار هذا الحال يا أمي.

- هذا الحال.. أهون عليَّ أن أودع أبا زاهد.

- والدي مات.. احتضنه التراب.

- ترابه عطر، ألم تَرَ كيف نمت الأعشاب فوق قبره من دون القبور كلها..

- ربما كان المكان رطباً.. ربما اختارته زخة مطر..

- نعم.. هو من دون غيره من سكنة القبور.. اختارته زخة المطر.

ومضات الرصاص.. تتكرر، أصوات الموت والدمار تخترق سكون الليل، الليل بشع، الليل يستر الجريمة.. تقوم أم زاهد.

- ونحن.. نكتفي بذكرياتك، ونحتمل إصرارك، ونتنفس الخوف.

- أسكت.. ما قيمة الإنسان بلا ذاكرة؟

واخترقت رصاصة طائشة، موقعاً آخر من النافذة.. وعندئذ انتقل الشتاء البارد إلى الزاوية.. زاوية الغرفة تنزوي وحدها ومن ثم تحيط زاهد وأمه.. اشتد الحقد بكثير من الرصاص، بكثير من الأسلحة الأشد فتكاً.. ذلك أنَّ الجدار كرهينة وألقى بنفسه في التهلكة.

تعرى المكان؛ تعرى سماء الغرفة، أصبح بلا سماء.. وسماء الله لا ترى في هذه العتمة.. سقطت شظايا قريبة منهما.. سقطت حجارة.. وسقطت أنفاس قلقة، بالكاد تتوضأ بالصبر، واحتمال الأذى، واحتمال أن يكون هناك صباح! 

الرصاص التائه؛ رصاص عارٍ عن زناد صاحبه، خائن لمهمته.. ولكن متى كانت للرصاص مهمة سوى القتل؟ فجأة.. سمعت أم زاهد كلمة (آخ) مصحوبة بأنين.. لم تجد في الـ (آخ) والأنين، سوى تذمر واستياء زاهد.

- زاهد حبيبي، الفجر قريب، في ضوئه سنبحث عن مكان آخر أكثر أمنا.. زاهد.. سنكون في أمان.. صدقني.. زاهد لا تغضب مني.. أعرف أنك لن تتركني وحيدة.. زاهد.. أمري إلى الله، واليك.. سأدوس على روحي والحق بك.. ونذهب أينما شئت.. زاهد، لماذا لا تجيب، أين أنت.. هل انتقلت إلى مكان آخر، زاهد.. أنا أحس بالبرد.. تعال ندفئ بعضنا.. هذا الشتاء لا يطاق، بارد ومصحوب بالرصاص.. زاهد.. هل تحس بالخوف مثلي.. سنموت معاً، الخوف يتربص بنا، الموت يلاحقنا.. عش أنت.. أنا أخذت قسطاً وافراً من الحياة، وكل ما بقي من حياتي بعد والدك.. فائض عن الحاجة.

- زاهد.. أنا قطعة من الثلج.. لا تقترب مني ستصاب بالزكام ولا قدرة لي على معالجتك.. دعني أموت رعباً وبرداً وحذراً عليك.. زاهد.. لماذا تعاملني بكل هذا الجفاء.. أنا أمك.. لا تغضب، سأذهب معك وأحرق ذاكرتي.

***

كان الفجر يستيقظ بصعوبة، يفتح جفنيه كما لو أنه عاجز عن البصر.. للفجر حق في الاستياء، فلا العصافير تستقبله وهي في اعشاشها فوق الشجرة الجهنمية، ولا الجهنمية تسحره بلونها، ولا شجرة التين تحتفظ بثمارها.. ذلك أن المكان لم يعد لائقاً بها وقد جف المكان، وانكفأ وهو يحس بالبرد القاسي.

في هذه اللحظات تلمست أم زاهد المكان.. زاهد.. أين أنت، لماذا لا تجيبني.. تلمست كل شيء، الحجارة والكارتون وبقايا بطانية عفنة و.. تلمست شيئاً طرياً:

- زاهد.. أهذا أنت.. انهض كفاك نوماً، كيف استطعت أن تنام وسط هذا الضجيج من أصوات الرصاص، وهذا البرد، 

وهذا الظلام، وهذا الخوف.

زاهد.. استيقظ، بدأ الفجر يضيء النهار.. زاهد لا تكرهني إلى هذا الحد.. أنا أمك.. انهض، سنذهب كما تريد.. زاهد.. زاهد..

بان الضوء، وبان وجه زاهد.. كان شاحباً، ساكناً.. كما لو أنه كان زاهداً في الحياة كلها، كما أسماه والده..

- زاهد.. زاهد.. لست نائماً، ولست يقظاً.. وما دمت غير نائم وغير يقظ.. إذن ماذا تكون، في أي حال...؟

حدقت في وجهه بعينين من لهب، بعينين جفت فيها الدموع والحسرة والكلام..

- هل انت.. هل تسمعني..

ولم تكن تريد أن تنطق بالكلمة.. أرعبها أن تقولها، خشبت أن تبوح بها.. كانت حذرة وهي تمسك بيده..

- زاهد.. كلمني.. هل أنت.. كما انت...

- زاهد.. أنا زاهدة بالحياة أنا امرأة عجور.. زاهد استيقظ.. اِسقِ شجرة التين، ولا عليك من الجيران، دع الشجرة الجهنمية تنمو، واحتفظ بأعشاش العصافير، لا تسمح لأحد من الأطفال أن يصطادها او يرميها بحجر.. زاهد.. زاهد.. هل أنت.. أنت حي؟

ولم تسمح لشفتها أن تقول: هل أنت ميت؟

دفنت رأسها فوق صدره، جاءته بالبطانية الممزقة.. جلست إلى جانبه احتضنته، لا تخشى من البرد.. سأحضر لك الفطور ما زالت لدينا بيضة ورغيف خبز يابس.

زاهد.. سأدق كل الأبواب واجيء لك بالماء.. أنت لا تستطيع أن تأكل من دون أن يكون الماء إلى جانبك، دعني أدق باباً.. باباً.. ماذا تقول: لا أحد باقٍ من الجيران.. لكننا باقون.. سندق على بابنا.. بابنا بلا باب، وأنت أنت بلا دفء.. وأنا قطعة من ثلج.. والنهار بلا نهار.. وأنت أنت يا زاهد.. هل زهدت بالحياة...؟

دعني أرى الفجر في عينيك..

لكن عينا زاهد كانتا مغمضتين.. فيما كان وجهه قد أصبح بلون التراب.. والتراب يملأ المكان..