سلام مكي
مرت قبل أيام ذكرى ترجّل سركون بولص من صهوة الشعر إلى غياهب الأبدية، حيث استعمر المرض جسده والغربة روحه، زمنا طويلا، جعلا منه مجرد ظل لشاعر، كان يغترف من بحر القصيدة وجعها ليروي به ظمأ الشعر! رحل سركون، ليعيش شعراً فيناً، رحل تاركا خلفه إرثاً من الشعر، يكفي لترطيب ضفة الأمس القريب، وهو يتلاشى، دون حراك من أحد.
كان يعيش لأجل الشعر، ويكتب لأجل أن يغرس الشعر في كل بقعة من بقاع الثقافة والأدب. ومثلما كتب الشعر مبكراً، رحل مبكراً، من دون أن يستمع للجدران وهي تردد صدى أوجاعه التي كان يبثها للزمن.
لقد جعل من شعره وثيقة رسمية، تؤرخ لزمن أفضل ما يقال عنه، إنه لا يقل فداحة عن الغابة، بل إن الغابة لا تشاهد فيها من يقتل من أبناء جنسه، إلا نادراً، لكن المجتمع الذي كان سركون شاهدا عليه، تأثث بآلام ودماء وأعضاء مقطوعة! لقد أيقن أن التصدي لتلك الوحشية، أجدى من الانشغال بصراعات وخلافات، لا وجه لها سوى أنها صورة مشوهة لحديقة يفترض أنها أجمل ما في البيت! لم يشغل نفسه بالصراعات التي انخرط فيها مجايلوه، لا الشعرية ولا الشخصية، كان فقط، يعيش آلامه وآلام رفاقه الذين جعلتهم السلطة حطبا لنارها المستعرة!
كان منشغلا بالشعر، وكأنه خلق لا ليكون شاعرا، بل ليكون صانعا لكيان روحي اسمه الشعر! يقول سركون عن الشعر: إذا كانت الثقافة خانات العقل، ثغرة في درع السلطة، فالشعر عقب أخيل السلطة! أروع توصيف قاله شاعر عن الشعر، بعيدا عن الانفتاح والتقييد، والعروض والقافية والتجربة الروحية وغيرها من المصطلحات التي درج النقاد والشعراء على إلصاقها بنقدهم للشعر، دون أن يتطرقوا إلى وظيفته الأساس. سركون هنا، خرج عن النسق العام الذي كان سائدا، فلم يدخل في غمار المعارك الأدبية التي لازالت دائرة إلى اليوم، حول انتماء قصيدة النثر للشعر أم للنثر، ولم يصنع لنفسه خصوما كما فعل شعراء آخرون غيره، لينشغلوا عن الشعر بالنثر! النثر الذي تحول إلى قذائف كلامية بين هذا الشاعر أو ذاك، والأغرب من هذا أنه رغم مرور أكثر من عقد كامل من الزمن، ما زال الكثير من النقاد منشغلين بتلك المعارك التي كانت تأخذ طابعا شخصيا، بعيدا عن الشعر ومتاعبه، خصومات، تستند إلى الخلاف العقائدي بين المتخاصمين، تم سحبها على منطقة الشعر، لتأخذ حيزا واسعا من الدراسات على حساب الشعر نفسه. فالشعر عند سركون، أقوى سلاح يمكن به مواجهة السلطة، فهو يشببه بعقب أخيل المساحة الوحيدة التي استطاع السهم من خلالها النفاذ إلى جسد أخيل، بعد أن غمسته أمه في مياه الخلود، عدا تلك المساحة الصغيرة والتي كانت تمثل مكان اصبعها، وهو ذاته المكان الذي سيكون السبب في موته لاحقا!
الشعر حسب رؤية سركون، هو المكان الوحيد الذي يمكن من خلاله النفاذ إلى قلب السلطة، وهو مكان قاتل حتما! وكأن سركون يقول لنا: لو لم يستطع الشاعر أن يجعل من شعره عقبا لأخيل، فعليه أن يترك الشعر! ويشترط سركون في الشعر أن يكون متحررا، من القيود التي فرضت عليه قسرا. يقول: الايديولوجيا في الشعر، عصاب فكري وليست في صلب الرؤية الشعرية، إنها كالعصابة الجلدية التي تربط بها عينا الحصان، بحيث لا يرى غير الطريق التي تمتد أمامه، وتمنعه من رؤية ما يجري على جانبيه. من هنا، لي الحصان من يستفيد، بل الحوذي. ومن هنا، حاجة الشعر الأيديولوجي إلى صورة بطل أو ومضة أو قائد يمجده دائما وينشد له. إنه يحتاج إلى حوذي يقود العربة! هكذا كان يرفض الوصاية على الشعر، ويرى بأن الشعر هو الذي يفترض أن يكون وصيا على العالم. كان يرى أن الشاعر يجب أن يستثمر الأفق بما ينبغي أن يكون، وأي وصاية خارجية، ستجعل من الشاعر مجرد راوٍ لسرديات مكتوبة على جبين السلطة ورموزها. بالتالي، فسيتحول الشعر من عقب لأخيل، إلى مسمار في نعش الحرية! لهذا، نرى أن السلطة، تحاول قدر الإمكان أن تستميل الشعراء إلى صفّها، وتحارب بكل ما لديها من قوة الشاعر الذي يسعى للوصول إلى عوالم وأماكن لم تصرح بها السلطة!
يضيف سركون: كل ما أريده أن يشاركني القارئ، إذا أراد أو استطاع في محاولتي لفهم قيمة إنسانية أو عاطفية معينة، تعبر عنها القصيدة، لنصل معا إلى نقطة لقاء، إلى انفتاح عابر بين كائنين، وإعجابه ليس ضروريا بعد هذا. سركون هنا، يسعى لأن يتشارك اللحظات الانسانية مع الآخر، عبر ترجمتها إلى شعر، مكتوب بلغة مختلفة عن المألوف والسائد، ثم يطلب من هذا الآخر، أن يشاركه تلك اللحظات التي شكلتها القصيدة، والتي تحولت إلى نبتة في الحديقة، التي يسعى لتشييدها فوق ركام الواقع. فهو وإن كان يسعى لجعل القصيدة عالما مأهولا بأوجاع الشاعر، لكنه في الوقت نفسه، يسعى لأن تكون قصيدته لسان حال الآخر الذي يغترف منه من النهر نفسه.
لقد شكّلت قصيدة " آلهة الزقوم" المنشورة في ديوان عظمة أخرى لكلب القبيلة، وثيقة إدانة صارخة ضد السلطة آنذاك، وكانت أبلغ خبر عما كان الانسان العراقي يعانيه من تعذيب وتشريد وقتل، لمجرد أنه لم يرتض لنفسه أن يكون قلما بيد السلطة! تلك القصيدة، التي أهداها إلى صديقه القاص " يوسف الحيدري" تكشف لنا عن فداحة النظام، وقسوته المفرطة. سركون، آمن بأن للشعر سطوة على الشاعر، فلا يمكن للشاعر أن يفلت من سطوة الشعر، حتى لو كتب نثرا، وإلا كيف يمكن لشاعر أن يكتب نثره شعرا! فلا يكاد يخلو مقال لسركون أو قصة من الشعر!