يبدو أنّ ملف الاستثمار في العراق مازال ملفا غامضا، ومثيرا للجدل، ورغم كل الحديث عنه وعن الجهات التي تقف وراءه، فمازال الجانب الاجرائي في هذا الملف قاصرا، ولا يرتقي الى مستوى حاجة البلد الى استثمارات ستراتيجية، والى برامج تُسهم في انعاش الاقتصاد الوطني وتخفف من غلواء العجز والبطالة وكل حيثيات الاقتصاد
الريعي..
فبقدر مايقترن الحديث عن حركة الاستثمار بالحاجة الى الجهود الاستثنائية، فإن الحاجة الى البيئة الصالحة والى البرامج العملياتية هو التعبير الواقعي عن حيوية تلك الحركة، وعن تنشيط الفعاليات التي ترتبط بها، وعن امكانية معالجة الاخفاقات التي جعلت من ملف الاستثمار ملفاً مركونا، ومحفوفا بعديد المشكلات السياسية والاقتصادية والمحاصصاتية.
ما اثاره حديث مستشار رئيس الوزراء للشؤون المالية حول طبيعة تلك الجهود، وعن الافق الزمني لها يتطلب اجراءات وادارات تدرك اهمية الاستثمار في بناء النظام الاقتصادي، وفي توسيع مديات التأهيل الاقتصادي، وفي تيسير تلك الاجراءات، على مستوى حمايتها قانونا، أو على مستوى تجاوزها لعقدة البيروقراطية والفساد، والتي تسببت في ابعاد الكثير من رؤوس الاموال الوطنية والاجنبية عن البيئة العراقية
المعقدة.
تحريك المشاريع المتوقفة والمتلكئة في محفظتي الاستثمار الخاص والحكومي هو جوهر حديث السيد المستشار، والذي يبدو أنه يواجه عقبات كثيرة، بسبب غياب الرؤية الواضحة اولا، وعدم امتلاك برنامج حكومي واضح لتنشيط ملف الاستثمار ثانيا، وهيمنة جهات سياسية أو جهات غامضة على هذا الملف وتحت يافطات شتى
ثالثا.
الجهد الحكومي والجهد المدني
موضوع الاستثمار ليس موضوعا حكوميا خالصا، ولا حتى مدنيا خالصا، ففي واقع اقتصادي مضطرب كالعراق يحتاج الاستثمار الى قوانين واضحة، والى آليات تنفيذية أكثر وضوحا، وبقطع النظر عن طبيعة التوصيف القانوني لتلك القوانين ومدى فاعليتها، أو مدى تطبيقها على الارض، فإن حماية البيئة الاستثمارية من قبل الجهات الحكومية هو المجال الذي ينبغي أن تتصدى له الوزارات المعنية، وأن يكفل البرنامج الحكومي استقلاليتها، وربط ملفها بمكتب رئيس الوزاراء، مقابل تحرير سياستها واجراءاتها من كل التبعات الادارية والبيروقراطية، والتي كثيرا ما تكون سببا في تعطيل هذا المشروع أو ذاك، وهذا مايجعل الحديث عن توقف او تلكؤ مايقارب 900 مشروع وبمبلغ اجمالي 40 مليار دولار موضوعا اشكاليا، وباعثا على مزيد من الازمات التي قد تواجه اي مشروع استثماري جديد..
البحث عن المعالجات يصطدم بكثيرٍ من المعوقات، وبكثير من الفساد والبيروقراطية، والتي اسهمت ومنذ أكثر من خمسة عشر عاما في تعريض الاقتصاد العراقي الى خسائر كبيرة، فضلا عن تعطيلها لمشاريع خدمية وطبية وتعليمية داعمة للبنى التحتية التي تعاني من مشاكل بنيوية
عميقة.
الجهد المدني في العراق لا أفق واضحا لبرامجه، ولا لمشاريعه، فالعراق المحكوم منذ عقود بالسياسات المركزية وبالاقتصادات المركزية أسهم في اضعاف هذا الجهد، أو اخضعه الى جملة من الاجراءات الضاغطة والمتعسفة، أو اختصره عبر مجموعة من الرساميل التي تديرها شركات لها علاقة بهذه الجهة أو تلك، ومن هنا فإنه يجب العمل على وضع برنامج وطني واضح وعملي ومحكوم بالأطر القانونية التي تحمي الجهات المُستثمرة من جانب، وتلزم تلك الجهات بالضوابط التي تكفل جدية العمل وتنفيذه ضمن السقوف الزمنية المتعاقد
عليها.
إن تلكؤ وتوقف تلك المشاريع يعكس غياب تلك الاجراءات، أو التعمد في تغييبها، وبالطريقة التي جعلت من ملف الاستثمار ملفا مفتوحا للفساد، وللعطالة، وللمشاريع الوهمية، والتي كثيرا ماتحدث عنها بعض مسؤولي الدولة العراقية، والمجتمع المدني، وحتى الحديث عن تذليل المعوقات التي تحدث عنها السيد المستشار، لاسيما مايخص منح القروض بشكلٍ خاص يحتاج الى ضوابط والى حوكمة دقيقة وعملية، والى جهات اختصاص تعمل على تشجيع الاستثمار وتيسير حركة رؤوس الاموال الاجنبية من جانب، والى تفرغها للعمل الاستثماري، وعلى وفق برامج واضحة يتم التنسيق فيها مع الوزارات المعنية، ومع الجهات المدنية من جانب آخر.
إن عطالة الاستثمار باتت أمرا مقلقا، وباعثا على تعويم اقتصاد الدولة ليظل ريعيا، ومرهونا بسعر النفط، وبالازمات التي قد يتعرض لها، وهذا ماينبغي أن تدرك خطورته الحكومة العراقية، والتي تضع في موازنتها الاستثمارية أموالا كثيرة، لكنها تظل خارج الفاعلية والاستعمال، أو يضيع قسم منها في مشاريع غير مجدية، وغير حقيقية، ولا علاقة لها بحاجة الناس الى مشاريع استثمارية حقيقية تُسهم في تخفيف معاناتهم، وفي أن تكون مصدرا لتوسيع موارد الاقتصاد العراقي وتقليل العجز الذي نعاني منه، فضلا عن تخفيفها من ظاهرة البطالة التي اصبحت واحدة من اكثر الظواهر الاجتماعية خطورة على التنمية وعلى النظام الاجتماعي والتربوي والنفسي في المجتمع
العراقي..