محمد صابر عبيد
تؤدي اللغة دوراً حاسماً في إنتاج المعنى على نحو يحتاج فيه من يستخدم اللغة أن يكون شديد الوعي لحراكها الدقيق وتموجاتها الخاطفة، إذ قد تنتج صياغات لغوية معيّنة -حين لا يكون الانتباه إليها عميقاً- عكس ما يريده القائل في مفارقات عجيبة، وقد يكون نقيض المعنى المراد تماماً بحسب الأعراف اللغوية الأساسيّة التي تقود إلى صناعة المعنى بحسب مقتضى الحال.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى في الموروث الكلامي العربيّ القديم؛ وحتّى العصر الحديث، وسأنتقي مثلاً واحداً هنا أسلّط عليه قراءتي الخاصّة لأستلّ منه معنى يناقض على نحو كليّ ما أراد صاحبه الإتيان به، أو التدليل عليه، أو محاولة فرضه على وفق مقاصد مسبقة تنوي إثبات حقيقة ما يريد أو يرغب.
هذا المثل يخصّ عنوان كتاب نقديّ للشاعر الرائد أحمد عبد المعطي حجازي؛ جمعَ فيه مجموعة مقالات يهاجم فيها قصيدة النثر، وهذا العنوان هو "القصيدة الخرساء"، ولا شكّ في أنّه سعى في هذه العنونة المؤلّفة من موصوف خبريّ معرفة هو "القصيدة"، ونعت معرفة هو "الخرساء" إلى توكيد قضيّة معيّنة، وقد أراد بذلك -كما تكشف طبيعة المقالات التي يحتويها الكتاب- أن يصف قصيدة النثر بأنها عديمة الصوت قياساً بالنوعين الآخرين المعروفين في الشعريّة العربيّة، وهما قصيدة الوزن وقصيدة التفعيلة، على أساس أنّهما يمتلكان صوتاً عالياً يطرق الأسماع ويثير مكامن التلقّي والاستقبال، وهذه هي الرؤية التي يبدو أن الكاتب قصدها في هذا التعبير المرّكز في صوغ العتبة العنوانية لكتابه.
إنّ التمعّن والتدقيق والحفر في هذا التركيب العنوانيّ يبدأ من الموصوف الخبريّ "القصيدة"، إذ فيه اعتراف مطلق على أنّ قصيدة النثر ليس مجرّد قصيدة؛ بل هي "القصيدة" بهذه الـ"أل" التعريفيّة العهديّة التي تجعل من المعرّف به معتلياً منصّة الشعر؛ وقد فرض نموذجه بهذا التعريف القارّ الحاسم، واكتسب هنا -بحسب الرؤية القانونيّة- "الدرجة القطعيّة" في انتمائه إلى جنس الشعر بوصفه نوعاً أصيلاً من أنواعه، وهذا الاعتراف الكبير ينفي بصورة لا تقبل الشكّ قصديّة الكاتب -كما تشير مقالات الكتاب كلّها- منعَ قصيدة النثر من الانتماء إلى شجرة العائلة، وتجريدها من كلّ ما يمتّ لها بصلة إلى ميدان الشعر وأعرافه وتقاليده وإجراءاته، في حين يأتي تعبيره الحاسم هنا "القصيدة" دليلاً على تمكّنها -لغويّاً- من اعتلاء منصّة الشعر بقوّة تعريفيّة عالية.
أمّا الجزء الثاني من عتبة العنوان المتمثّل بالصفة "الخرساء" فهو الجزء الذي يعضّد سابقه؛ ويمنحه قوّة دلاليّة أكبر على معنى الانتماء إلى جنس الشعر، وهذه الصفة المعرّفة أيضاً تعني -فيما تعنيه- فضاء القدرة على التعبير والوصول والتأثير من دون صوت، بالمعنى الذي يحيل على أنّ الصوت العالي المنبريّ القائم على الشفاهيّة والسماع هو صوت قصيدة الوزن، ومن بعدها -وبدرجة أقلّ- قصيدة التفعيلة، وهذا الصوت المنبريّ الذي يصل حدّ الصراخ أحياناً هو بحاجة دائمة إلى استجابة جماهيريّة سماعيّة؛ تصفّق وتهلّل وتطلب من الشاعر أن يعيد بعض أبياته أو مقاطعه دليلاً على الإعجاب، على نحو يدعو الشاعر إلى أن يصدّق ذلك وينبري إلى إعادة ما يحلو له، متغنيّاً ومتبختراً باعتلائه المنصّة التي لا يهبط منها بسهولة، وما أن تنتهي الاحتفاليّة ويهبط الشاعر من منصّته العلياء وقد بُحّ صوته من كثرة الصراخ والصياح؛ حتّى تموت القصيدة وتذهب أدراج الرياح بلا مصير داخل فضاء القراءة.
هنا تكون صفة "الخرساء" التي وصف بها حجازي قصيدة النثر مديحاً ما بعده مديح لهذه القصيدة، مع أنّه كان يقصد وضعها بهذه الصفة في مرمى الهجاء بحسبما أراد، لأنّها قصيدة هامسة معدّة للقراءة والتأمّل وليس للصوت الذي يملأ القاعات والأرجاء والأسماع بالضجيج اللغويّ ووقع القوافي، قصيدة أخرى مغايرة تطرح الأسئلة وتقدّم مفهوماً مغايراً للمفهوم القديم الذي استمرّ هذه القرون العجاف كلّها، في ظلّ عقل شعريّ عربيّ يرفض التجديد والتحديث؛ وذائقة عربيّة كسلى تطمئن على ما تعرف؛ وليس لديها أيّ استعداد للمغامرة وجرأة الانتماء إلى إيقاع العصر ونواميسه الخاصّة، بما ينطوي عليه هذا الإيقاع من تفجّر هائل في العلوم والمعارف ووسائل الاتصال والتواصل، والتقدّم في مجالات الحياة كافّة على نحو يجعل نموذجاً شعريّاً مثل قصيدة الوزن لا يمكن أن تحيا في ظلّ هذا الفضاء الجديد.
شكّل هذا العنوان "القصيدة الخرساء" معنى يكتظّ بالمديح لقصيدة النثر لم يكن يقصده الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي هنا أبداً، بل كان يريد أن يهجو هذه القصيدة ويُخرجها من بيت الشعريّة العربيّة بلا هويّة، لكنّ اللغة خانته -وهو الشاعر الرائد صاحب التجربة التي فات السبعين عاماً في العمل على اللغة-، وفرضت قصيدة النثر نموذجها بعنوان ينتصر لوجودها انتصاراً ساحقاً، يجعل منها "القصيدة" أولاً بهذا التعريف الدامغ لكونها الشعريّ البالغ التعريف والتوكيد والحضور، وبهذا النعت الجميل "الخرساء" الذي يتناسب قطعاً مع خصوصيّة قصيدة النثر التي تغادر الصوت والسماع، وتعتمد على الهمس اللغويّ الأخرس الذي يمتحن خبرة القراءة والتلقّي لدى عشّاق الشعر، فالحياة خرساء والجمال أخرس والحبّ أخرس والعلم أخرس والمعرفة خرساء والسرّ أخرس، لأنّها كلّها لا تقوم على الصوت بل على الفعل والأداء والتأثير.