د. سمير الخليل
يرصد القاص لطيف عبد سالم ببراعة وصدق وعفويّة بؤر التناقضات والتأزّمات الاجتماعيّة والوجوديّة، والسايكولوجيّة، على وفق لغة قصصيّة شفيفة وعميقة الدلالة عبر صياغة سرديّة تبعد النص عن الاسترسال الفائض. فنصوص مجموعته "خيانة الناطور" مساحة لالتقاط الوجع الإنساني بكلّ تجلّياته وأبعاده مؤطراً بروح المفارقة السوداء التي تجعل النصوص قريبة من خصائص الكوميديا السوداء.
كما وتتميز بالاختزال والتركيز على بؤرة محدّدة يرصد فيها صراع أبطاله مع الواقع على الرغم من أنّهم غالباً ما يصابون بالخيبة والانكسار والقهر الاجتماعي نظراً لهيمنة ومأزوميّة الواقع الذي ينغمسون فيه، ويكابدون للخلاص والانعتاق منه، ولكن قسوة ومصدّات وجفاف الأزمات الثقيلة تجعلهم يركنون إلى نوعٍ من القناعة وتفهّم جوهر الموقف العصيب، ولا يجدون سوى التأمّل والتحمّل وإعادة الصلة بالواقع، ومحاولة الانعتاق من ربقة الاحتدام وهيمنة الوجع التراجيدي بكلِّ أشكاله.
يلعب المكان دوراً مركزيّاً في نصوص لطيف عبد سالم، وهي تنقسم على وفق البيئة إلى قسمين أو بيئتين، حيث نلحظ الشخصيّات والأحداث تجري في الريف والقرية مرّة، وأخرى تجري في المدينة وأعماقها السحيقة المليئة بالضيّاع والتشتت، ويرصد القاص ببراعة إشكاليّة العلاقة أو أزمة المكان بين القرية والمدينة والتحولات التي تخلق روح المفارقة أو الاغتراب لدى أبطاله الذين يتقاسمون الهم في هذه الأمكنة المتباينة.
وتبدو قصص المجموعة وهي ترصد صراع الإنسان مع ذاته ومع الآخر ومع البيئة المحيطة، والقاص يحمل نوعاً من الثبات والتطلّع، لكنّه غالباً ما يصطدم بقوّة أكبر من تطلعاته، ولذا نلحظ النكوص أو الانكسار الذي يكابده هؤلاء الأبطال ما هو إلّا صورة من صور الاحتجاج على الواقع المأزوم، ومحاولة لإدانة هذا الواقع وأزماته التي تحاصر الشخصيّات نتيجة الاختلال والتناقض الذي يتمركز حوله هذا الواقع الهش.
وانطلاقاً من تحليل دلالة عنوان المجموعة بوصفها النص الموازي والإضاءة الكاشفة للبعد الأفقي والعمودي للنص فإنّ "خيانة الناطور" تشير إلى أن كلّ انسان هو عبارة عن ناطور حارس لذاته ولقيمه وعليه ألّا يخون هذه المسؤولية وهذا التكليف الوجودي والاجتماعي، ولكن الواقع هو الذي يجعل النواطير يفقدون القدرة على حراسة وأداء الأمانة بأكمل صورها فتسقط الأحلام والأماني، ويمثّل هذا الاشتغال بؤرة الصراع بين الشخصيّات والواقع، وأحياناً نجد الصراع بنمطه السايكولوجي المتأجّج داخل الشخصيّة، وإن هذه المعطيات على مستوى المضمون ونمط الأحداث والشخصيّات والأمكنة تجعل النصوص الاثني عشر التي تضمنتها المجموعة وقد استحالت إلى مدوّنات لرصد حركة الواقع، والمفارقة الفادحة والوجع الذي يطارد الشخصيّات سواء أكان هذا الوجع ناتجاً عن تراجيديا الذات وأفعالها أم ناتجاً عن تراجيديا القدر الخارجي مثل الموت أو الفقر أو المرض، ويمكن الاستدلال على أن النصوص قد استلهمت معنى الصراع القائم بين الثنائيات المتضادة للكشف عن مكنونات ومضمرات الواقع بكلِّ أزماته وهمومه، فـ "القرية والمدينة" و"القوّة والضعف" و"الرجل والمرأة" و"الحلم والكابوس" و"الحقيقة والزيف" وغيرها من الثنائيات التي ترضخ تحت سطوتها الشخصيّات التي تتسّم بالتشبّث ومحاولة الثبات والإمساك بالواقع والحلم، وتحقيق الذات ونجد أنَّ أغلب النصوص تتجسّد شخصياتها بلا أسماء محددة، وكأنّها تسجّل أو تركّز على معنى وتجلّيات الحكاية أكثر من تركيزها على شخصنة الحدث.
اتّسمت النصوص بانتقاء العنوانات المناسبة والدالة لكل نص، وعبّرت عن المعنى بمفردة واحدة دالة مثل: "استلاب، المواجهة، المأزق، مواءمة، صرخة، المجهول وغيرها"، ففي قصة "مواءمة" نلحظ الشخصيّة الرئيسة وهو الابن مشدوداً إلى عالم الأم، وتتمركز عاطفته واهتمامه بها الى حدِّ الهوس فهي تمثّل له المساحة الوجوديّة، والروحيّة والاجتماعيّة، "كان جلُّ اهتمامه منصبّاً على الظّفر بمحاولة إبعاد كل ما يثبط عزيمته حول التعامل معها بطريقة من شأنها خلخلة وجدانها المعبّأ غيظاً وألماً، وهي تُرخي عينيها في إغماضة خفيفة أعادت إليه شدّة حزنها". وبذا فإنّ سرَّ تعاطفه وتمركز ذاته حولها يعود إلى حزنها الدفين وبسبب شظف ومعاناة السنين، وهناك لمحة أخرى لهذا الحزن بسبب وجود ابنها الآخر في جبهات القتال، ويحاول أن يرضيها ويبعث الراحة في نفسها حين يقرّر أنْ يكتب له رسالة لكنّها تباغته بحقيقة أنه لا يعرف القراءة والكتابة فيجيبها: "ما الضير في ذلك ما دام هو أيضاً لا يجيد القراءة والكتابة".