محمد طهمازي
"إن الروح تغدو ما هي عليه بتحقيق ذاتها فعليا في العالم، فهي ليست لا متناهيا منفصلا عن المتناهي فلو كان الأمر كذلك لكانت لا متناهيا محدودا وهذا غير معقول إذا فهي اللامتناهي الذي يشتمل على المتناهي ويحقق ذاته في المتناهي" لفريدريش هيغل.
جاء التجريد في الفنّ التشكيليّ كنقيض لفكرة المحاكاة الشكلية وتبعه لاحقا التجرد من الموضوع لتصبح اللوحة عبارة عن مجموعة علاقات ما بين الخط واللّون والمساحة كما فعل فاسيلي كاندينسكي ورفاقه، وهو ما يتوافق مع توجه جميل حمودي الحروفي بشكل شبه تام والذي عمل على التخلص من الروح الشرقية في جانبها المتعلق بإيقاعات.
الحروف وتناغماتها الحدسية والحسية معا، كما يصفها مؤرخ الفنّ الانكليزي هربرت ريد، وعمد جميل إلى تشكيل الحروف على وفق مبدأ التشييد وهو أقرب مايكون إلى التجسيد النحتي الذي لو صير لجميل حمودي أن يكون نحاتا لكانت بصمته، برأيي، أعمق من بصمته في مجال الرسم برغم أهمية الأخيرة ودورها المبكر في تناول الحرف العربي وتأثيرها في أجيال الحروفيين وخصوصا في المغرب العربي حيث لفت النظر إلى تجسيد الحروف العربية وفق رؤية خارجة عن القواعد لكنها ليست كيفية أو عبث كتابي حيث أبقى على احترام رسم الحرف وقام بتحويله إلى معمار تشكيلي من دون الالتفات للكلمات أو معانيها، وهو بذلك حسب حوارات سابقة لي معه استثمر الحرف من حيث قوته الروحانية سواء في القرآن أو طلاسم الصوفيين وسعى لخلق بيوت أو غابات، أحيانا، تسكنها أرواح المخلوقات قبل أجسادها. وقال حمودي لي مرة "إنني لم أسع يوما إلى استغلال الحرف بظاهره، بل كنت أبحث فيما هو وراء الحرف كما هي فكرة المعنى الظاهر وهو الشكل المحدد الضيق التعبير والمعنى الباطن وهو الجوهر والمقصد والمعنى الواسع الذي يعززه المطلق ويمتد منه وإليه وهنا يكمن بحثي .. ". يحضرني في هذا المقام تبيان ابن عربي: "فإما الحروف المكتوبة فإن أشكالها تزول بالمحو، وعندئذ تنتقل أرواحها إلى البرزخ" فالحرف هنا شكل يتوارى خلفه روح وهذه الروح "هي باقية، ذلك أن وجود أشكالها في البرزخ لا في الحس" كما يوضح ابن عربي. لقد تجاوزت أعمال جميل حمودي مرحلة التفاعل في مديات الاشتغال الوظيفي مروراً بالإشتغال الجمالي المنسجم مع الإدراك الحسي ليصل إلى الاشتغال الروحي ليؤثث رؤاه في منطقة ما بعد الجمال وهي أشبه ما تكون بمنطقة ما بعد الخيال في السوريالية حيث يعيد تشكيل الحروف، لا لكي تصنع كلمات أو نصوصا، بل لتخلق معماراً بصريا ذي دلالات روحانية تصوفية لا تتخلى عن قوتها الجمالية لكنها لا تجعل منها السمة الرئيسية التي تسعى لتحقيقها كونها تتحرك في مجال اللامحسوس، فجاء استخدام جميل حمودي معماريات لتشكيل اللوحة أقرب ما تكون لجدران الجوامع والمراقد، بل وذات بنائياتها الأمامية والفوقية مستحضرا أساليب رسوم المنمنمات العربية الإسلامية لكن بشكل عام لا تفصيلي كونه تجريديا لكن هذا التجريد وإن تخلى عن الموضوع، لكنه كما أسلفنا قد سلك سبيل المعاني الروحية التي تتخذ جانب الإيحاء والتأمل تماما كما تفعل الأبنية الدينية في خطابها التأثيري المعتمد على الروح التي تسكن الأجواء قادمة من وراء البنى المعمارية والألوان والتشكيلات الخطية والزخرفية وفعل الضخامة والمساحات
الفراغية.
لقد استخدم جميل حمودي ذات الألوان التي استخدمها الخزاف في زخارف قطع السيراميك الكاشاني الذي غلفت بها جدران وقباب ومنائر دور العبادة تلك وهو بذلك يصنع جسرا معنويا تعبديا بين الحروف وتلك الأماكن لا لتكون الحروف رموزا لها، وإنما لكي يؤكد حقيقة أن الحروف تعبر عن المعاني الباطنية للمكان وللرؤية المقدسين.
يقول كاندنسكي: "إن الأشكال المجردة تحتاج إلى نصوص نظرية موضحة حتى يتذوقها المتلقي". وفي حالة جميل حمودي نرى خروج أعماله عن الحاجة لنصوص منظرة وشارحة كما في التجريدية العربية كون تجريده عبارة عن تشكيلات نصوص لها ظاهرها التشكيلي الذي يفكك التأمل من رؤاه وطلاسمه الروحانية لا حسب مستوى الدراسة النظرية لكل متلق بل حسب الدرجة التي بلغها تعاطيه مع القيم الروحية وبالتالي نحن أمام فن يتجاوز المحسوس الجمالي المادي صوب الفيض الروحاني.