فانتازيا الألم والخراب

ثقافة 2024/11/10
...

  علي حسين عبيد

ضمن منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في العراق لسنة 2024، صدرت رواية "قطيفة المساكين" للشاعر الروائي حسن النواب، يقع المتن الروائي لها في 157 صفحة من القطع المتوسط، تتضمن الرواية عدداً من الشخصيات المختلَقة، وقد تتشابه أحياناً مع شخصيات واقعية إلا أنها تخلَق بأسلوب فانتازي يجعلها غير قابلة للتصديق أحياناً، وفي أحيان أخرى يشعر القارئ أنها جزء لا يتجزأ من واقعه مع اختلاف المسميات والأماكن، التي تتحرك فيها جميع شخصيات قطيفة المساكين.
تختلف هذه الرواية عن سواها بمسارها الفني، فهي لا تشبه ما كتبه حسن النواب من روايات أو سرد، يدخل ضمن المذكرات كما في كتابه "ضماد ميدان لذاكرة جريحة"، كذلك تمتلك هذه الرواية هوية فنية خاصة بها، حتى أكاد أجزم أن هذه الرواية تبتكر أسلوبها الفني المختلف، من حيث صناعة الشخصيات، أو تلك القدرات العجيبة التي يمتلكها القلم "المصنّع أو المخلوق عبر خيال فانتازي"، وأعني القلم الذي حصل عليه الدردبيس من صديقه القروي فكتب به روايته هذه وخلق شخوصها بمهارة وغرابة مذهلة.
ويمكن لي أن ألخّص هذه الرواية في مسارين:
الأول: المسار الفني "الفانتازي/ الواقعي".
الثاني: المسار الموضوعي. وهو يتعلق بما تطرحه الرواية من أحداث ومواقف وصراعات تحاكي الواقع السياسي لدولة "يمكن أن تكون أنموذجاً لدول العالم الثالث، أو العالم المتأخر عن الركب العالمي المتقدم".
بالعودة إلى المسار الفني "الأول"، هنالك شخصية الدردبيس وهي الشخصية الرئيسة، تمثل البطل الأول والأقوى في الرواية، ومع أن شخصية الدردبيس "هلامية" مختلَقة، أو مصنَّعة من مجموعة أوهام مختلطة بمجموعة حقائق، إلا أن المؤلِّف حسن النواب يمنح الصدارة لهذه الشخصية حين يعطيها مكانة فنية روائية تمتلك القدرة على خلق جميع شخصيات الرواية الأخرى، فهو مثلا يخلق شخصية "مدير الأمن" وعائلته التي تتعرض للاختطاف في مستهل الرواية الصادم الذي ينقل القارئ من واقعه الوجودي إلى واقع الرواية الفانتازي الغريب، كذلك يخلق العديد من الشخصيات في قالب روائي كأنه يمثل حقبة زمنية تدور أحداثها في مكان وزمان له ملامح واقعية غرائبية في نفس الوقت.
القارئ يتيه في هذا التدفق السردي الأخّاذ، وتختلط عليه الشخصيات، والأنكى من ذلك تتداخل عليه الأحداث وتغدو مثل غابة مظلمة لا أول لها ولا آخر، ولكن يسعى الدردبيس "الراوي العليم وبطل قطيفة المساكين" لتوضيح عالم هذه الرواية للقارئ، ويطرح عليه شخصيات من لحم ودم، مثل شخصية الباشا، حيث تتجمع روابط السلطة في يده ويحرك خيوط هذه السلطة ومسؤوليها، كأنه يحرك خيوط دمى كما يشاء ولأي غاية يريد، وهنالك أيضاً شخصية الرئيس، والصديق الأثير للدردبيس وهو "مالك الحزين"، ومياسة الغبش التي يلتقطها الراوي من الواقع ليجعل منها ذات سطوة لا حدود لها، ومناهل العاشقة التي يستعيدها الراوي الدردبيس من مرحلة عمرية سابقة "مرحلة الشباب والعشق الذي جمع بينهما"، وهكذا يشكل الشخصية الرئيسة في الرواية حيث يجمع "الدردبيس" بين مهام الراوي العليم "يروي أحداث الرواية بدقة ومهارة"، وبين صناعة الشخصيات والأحداث التي ترتكز عليها أفكار وأحداث المتن الروائي برمّته، فالدردبيس يقوم بخلق "مدير الأمن وعائلته التي تعرضت للخطف" في استهلال الرواية، ويقوم بصناعة "الباشا" صاحب السلطة العليا والمتحكم بالمشهد السياسي في البلاد، ثم يقوم الدردبيس بصناعة "مالك الحزين" وكذلك صديقه القروي، ثم هنالك مياسة الغبش التي استلها الدردبيس من الواقع المتخيَّل، ومناهل عشيقة الدردبيس وزوجها الإرهابي الذي يفجر نفسه بحزام ناسف لقتل مجموعة من الأبرياء.. هذه المخلوقات كلها خالقها الدردبيس، وهي تكاد تكون واقعية من لحم ودم، ويشعر القارئ بأنها جزء من تاريخه و واقعه أيضا.
ولعل الركيزة الفانتازية الأقوى في الرواية تتمثل "بالقل" الذي يكتب به الدردبيس روايته هذه، وقد استعاره من صديقه الشاعر القروي، وهو قلم "فنطازي بامتياز" كونه يصنع الشخصيات ويبتكرها كما يشاء بعد أن يقرر الدردبيس ذلك، ويمنحها الصفات والقدرات بطريقة فنطازية هائلة، بيد أنها في حالات عديدة تبدو كأنها متلاصقة بحياة الناس ومستلّة من واقعهم، لدرجة التماثل مع يوميات الناس وما يحدث لهم من تجاوزات وانتهاكات وظلم وآلام وتدمير وسرقات منظمة لخيراتهم.
وقد لوحِظ في هذه الشخصيات تمردها على "خالقها" الدردبيس، لدرجة أنه يخشاها أحيانا، ويتردد في معاقبتها أو الضغط عليها رغم أنها كانت تهدد حياته، فتستحيل الرواية إلى حياة فعلية أو واقعية، وتتداخل الأوهام بالوقائع، وتضيع الحدود ويصير الواقع وهماً والعكس صحيح. كل هذه المشاهد تُرسم بريشة ماهرة يتحكم بها خيال الراوي "الدردبيس"، وهذه الريشة بمثابة قلم الشاعر القروي، والغريب أن القارئ لا يمكنه التفريق بين "الفانتازيا والحقائق" فيعيش في صلب الرواية ويصبح جزءاً من أحداثها ويصدّق عوالمها ويتفاعل معها كأنها موجودة فعلياً في حياة الناس.
هذا الواقع الفانتازي المختلَق جعل هذه الرواية مختلفة بامتياز عن سواها من الروايات العراقية وحتى العربية، فهي تقوم على الوهم والابتكار، وفي عمق هذا التيه الغرائبي المتلاحق، يصبح القارئ جزءاً من النسيج السردي، يتكون لديه واقع مرئي وملموس، يعيش مع شخصياته رغم هلاميتها، فيصبح الدردبيس شخصية حقيقية، والباشا يشكل جانباً من الحياة الواقعية للناس، وهكذا بقية الشخصيات التي تعجُّ بها الرواية.
هناك خليط غرائبي فانتازي واقعي يتشكل من شخصيات الرواية، ومن القلم"العجيب" الذي يمتلك القدرة اللامحدودة على الخلق، والتحكم بالمصائر، فيخلق هذه الشخصية ويقضي على تلك، ليس هذا فحسب، بل هناك تحكّم بمسار حياة هذه الشخصيات، ومنحها النجاح والانتكاس بحسب المشهد السردي الذي يرسم الأحداث بسلاسة وإقناع ومتعة غريبة.
في المسار الثاني: هناك واقعية "متخيَّلة"، ينسج أحداثها الراوي "الدردبيس" ولكنها تحاكي ما عاناه العراقيون في أزمنة مختلفة، تمتد على آلاف السنين، ثم تتركز على أحداثٍ لعقودٍ قريبة، هذه المحاكاة فيها لوعة قاهرة، وفيها آلام مريرة، وفيها محاولات كبيرة تسعى هذه الرواية من خلالها لفضح ما يتعرض له هذا البلد وشعبه، وتسعى لإنصافه، عبر صناعة الدردبيس لـ "مزارع حالمة" تنتج عنها ورود "فردوسية"، هي أزهار "قطيفة المساكين" التي تستجيب لتطلعات الناس البسطاء وتجعل حياتهم أكثر عدلاً وجمالاً وابتهاجاً، قطيفة المساكين زهرة تشبه شمس الشتاء كما يصفها الراوي العليم وهي تمثل الخلاص من الظلم والحرمان الذي عاناه الناس بسبب الفساد والخيانات وانتهاك حقوق الناس وضياع الوطن.
كذلك حاول الدردبيس أن يمرّر أحداثاً مصيرية مريرة عاشها "الروائي بنفسه"، لكنه سعى إلى عرضها ضمن النسيج السردي في حيلة فنية ذكية، حيث يأتي مالك الحزين مع الدردبيس، لينام معه في بيته، وبعد أن أغفى الدردبيس دخل مالك الحزين إلى المكتبة، وراح يقلب بكتب وأوراق المضيِّف ويطالع عناوين الكتب، ويفتح الدُّرج في المكتب ليعثر على مذكرات الدردبيس التي تحمل عنواناً مثيراً هو "نافورة الألم"، فيبدأ مالك الحزين بقراءتها ولكنه يشارك القراء بها، فنبدأ مع رحلة من الأحداث الجسيمة التي عاشها الدردبيس ورصد فيها أوجاعاً لا حدود لها عبر تثبيت وقائع مفجعة للحروب والجوع والحرمان والظلم والاضطهاد الذي واجهه العراقيون في مسيرة متلاحقة من الألم والخراب الهائل.
ومما برعت فيه الرواية، تلك المشاهد التي رُسِمت بجمال نثري مذهل، وقدّمت للقراء "مزارع قطيفة المساكين"، تلك الأزاهير الذهبية التي تشبه قرص الشمس حين يشرق في فجر شتائي قارس، فيتحول البرد إلى دفء متدرج، في إشارة إيحائية تفتح آفاق الأمل أمام الفقراء والبسطاء حتى يعيشوا في حياة أفضل وأكثر عدلاً، رُسمت المزارع والحدائق الواسعة لأزهار قطيفة المساكين في الصحارى الممتدة إلى ما لا نهاية، وساد اللون الذهبي وتجمّلت الأرض بأبهى صور الأمل والعيش الرغيد، ولكن كل هذا الجمال الزاهي لا يزال قيد الحلم القادم.