عبد الغفار العطوي
يبين تون أ. فان آيك في كتابه "الأيديولوجيا والخطاب.. مقدمة متعددة الاختصاصات" العلاقة بين الأيديولوجيا والخطاب باعتباره تتألف من الأيديولوجيا ، ويمكن تعريفها بأقل العبارة هي "إدراك اجتماعي في البعد الذهني والإدراكي".
تمثل أفكار أية جماعة ومعتقدها، وتتركز في وظيفتها التقليدية الاجتماعية والسياسية كما تعرف بالسابق، لكنها لم تعد كذلك اليوم، لكثرة المعتقدات، التي تجعل منها عابرة في الاختصاصات، لكن استقرارها على أنها تمثيلات اجتماعية هو الذي جعلها تكتسب بعدها الذهني والادراكي الواسع. وبالتالي هي تقف على الأعراف والقيم التي تنظم أفعالنا وتقويماتنا، وتندرج من ضمن التمثيلات الذهنية المتعلقة بذاكرتنا الاجتماعية.
أما الخطاب، فهو متعلق هنا بالأيديولوجيا من ناحية الحاجة الضرورية، التي تفرضها الأيديولوجيا بكونها كلية وعامة، في حالة وجود الكم الهائل للمواقف اليومية التي تنضوي تحت الأيديولوجيات، وترغب أن تفرزها للواقع الاجتماعي، أي بعبارة أخرى أن الخطاب يشكل عملية إنتاج الناس للممارسة الاجتماعية في الأيديولوجيا.
فإذا ما حاولت النخبة المهيمنة على تعميم تلك الأيديولوجيا أن تقوم باستخدام الخطاب بنية الاستحواذ على الموقف الأيديولوجي بمدى مختلف عن الخطاب المضمر لدى الأفراد، باعتبار النخبة تمتلك المقومات، والضغوطات السلطوية التي تدفع نحو القهر والغلبة الرمزيتين، وإن كانت قواها ناعمة، إزاء ما يحتفظ به الأفراد من ردود أفعال متباينة حول ذلك الخطاب، الذي يصفه تون أ. فان ايك في كتابه "الخطاب والسلطة" بخطاب الهيمنة بالنسبة للنخبة، والذي يتضمن "استخدام مفهوم العنصرية" حيث تقوم النخبة غاية في احتكار هيمنتها على الأفراد المنشقين عن عصا الطاعة، فهي تراهم يهددون بذلك الانشقاق الرمزي مصلحة النخبة، لتدفع بالأفراد الرافضين لهيمنتها نحو مفهوم "الفردانية".
وقد شهد القرن الثامن عشر الصراع حول الأيديولوجيا الحديثة بروز تحولات جذرية شملت انتقال الفرد خارج العالم إلى الفرد في العالم، بحسب "مقالات في الفردانية.. منظور انثربولوجي للأيديولوجيا الحديثة للويس دومون" ليصبح نداً بما يسميها سعد البازعي بمواجهات ثقافية، لهذا تقف النخبة أمام هذا التطور الخطير في فرادانية الأفراد نحو التلاعب السياسي الذي تذهب النخبة الثقافية.
لمزاولته عبر تبني مفهوم الهوية كما في كتاب "أوهام الهوية لجان فرانسوا بايار" باعتبارها الواجهة الأساسية لوضع النخبة في موقف السلطة السياسية الناعمة "كما نراه في المؤسسات الثقافية والأدبية" فالإجراءات التي تقوم بها تلك المؤسسات هي عبارة عن خدعة تقف من ورائها بإشاعة التصورات الوهمية في مجال الاستفادة من أجل الإمساك برقاب الأفراد بحجة أن سياسة النخبة السلسة هي في رفع الهويات الثقافية، وعدم السماح بالتفرد الفرداني، بحكم القانون الوضعي الذي تعتبره المرجعية الدائمة لحل الخصومات بين النخبة والمنشقين عليها من الأفراد "النخبة تقمع حركة الأفراد بما يتعلق بإبداعاتهم الفردية". فالتلاعب السياسي الذي تمارسه النخبة الثقافية يبدو جلياً في القمع الرمزي، وأحياناً الحركي في عملية الإقصاءات الثقافية "بما يخص انعقاد المؤتمرات والملتقيات والمهرجانات الخ" التي تعمل نوعاً من الإبعاد أو الإهمال، لدرجة تصل بما يقرب من التصفية الرمزية لجسد المناوئ لنزعاتها الاضطهادية بوصفها النخبة بحسب كتاب "القتل باسم الهوية.. دراسة في الصراعات الدموية فاميك فولكان" بغية فرض الهيمنة، لأن النخبة حالما تدرك عدم الرضا عن بعض سلوكيات الأفراد، وتصرفاتهم غير المنظمة في أداء المؤسسة الثقافية، التي تؤدي نحو الانحرافات غير الصحيحة أو المنضبطة باعتقادها، لهذا فإن خطاب النخبة المثقفة التي ترى أن شرط سير عمل المؤسسة الثقافية لا يتم إلا على وفق هيمنتها على كل ما تحتويه تلك المؤسسة الثقافية من مهام جليلة، بمقتضى المصلحة العامة هو عبارة عن خدعة لغرض مصادرة حقوق الأفراد في رؤية أدوارهم في حياة قائمة على ممارسة مواهبهم المعرفية وفلسفتهم الفردانية.
لقد بين ريجمونت باومان في "الحداثة والإبهام" حول مفهوم "الإبهام" الذي روجت له الحداثة السائلة، كما نظر لهذه الحداثة بما يسمى بعلم اجتماع الاندماج "بانتقام الإبهام" لأنه لم تكن تجربة الاندماج كلها مأساوية، وليست كلها مبدعة من الناحية الثقافية، وهو ما رآه في الصراع بين الأقليات القومية في أوربا، وحتى في عموم العالم من ضمن الدولة الواحدة، والهيمنة التي تعلنها النخبة لا تتحقق إذا كانت الضغوط على تلك الأقلية من الأفراد ليست قوية ولا تترك مجالاً للتراجع وجر الانفاس.
إن باومان في "انتقام الإبهام" تمكن من تحقيق المنعة للأقلية الفردية من الناحية الاعتبارية الثقافية من دون إفراط في الربط بين الأكثرية القومية و الأقلية الفردانية، وأن تمارس النخبة بعد ذلك هيمنتها بحكم خطاب السلطة التي منحت لها من خلال ادعاءاتها بالأحقية، يعني سحق مطالب الأفراد في الفضاء الثقافي الحر من ممارسة هواياتهم بعيداً عن تلك الهيمنة، في المؤسسة الثقافية لا يحق فرض خطاب الهيمنة على افراد يرون أن ثقافة التعبير تأتي على مقتضى إبداعاتهم، وهم لهم الحق في رؤية الثقافة لا تخضع لسلطة النخبة وقمعها للأقلية الفردانية. وظل تون أ فان ايك مصراً في جميع كتاباته في العلاقة بين الأيديولوجيا والخطاب أن يعلق على عدم احقية النخبة في قمع الأقلية الفردية في كل خطاباتها.
وفي كتاب "توجهات ما بعد الحداثة لنيكولاس رزبرج" عرض شيق لما أسسته الفردانية مقابل النخبة في حقبة ما بعد الحداثة، حينما ترك للأفراد الحرية في اختيار ما هم مؤمنون به من ثقافة يمكنها أن تصبح من أدوات النقد الناجحة في ما بعد الحداثة، لكن قدرة النخبة تظل في المؤسسة الثقافية على حجب ما أمكنها من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعية التي تصب في مصلحة الأفراد، وابتكار كل وسائل القمع والردع اتجاه مشروعية الأفراد. لكن المشكلة في إن إقصاء النخبة للأفراد عن دائرة صنع القرارات الثقافية التي تخص الانشطة الثقافية داخل المؤسسة عن طريق تقوية خطاب الإبهام في دعاوى ثقافية غير صريحة يجب أن تواجه بالحزم الدقيق من قبل ثقافة فردانية يسهم بها الأفراد الرافضون لخطاب الهيمنة المتعسفة من قبل سلطة النخبة، عندما يذهب الأفراد نحو جعل الثقافة وحدها هي التمفصل بين خطاب النخبة الأيديولوجي ومفهوم الثقافة بوصفها اداة من أدوات الحراك الثقافي، كما عبر عنها ستيفن جرينبلات في "من الشعرية الثقافية إلى الحراك الثقافي" أي أن تتحول الثقافة بيد الأفراد إلى أداة نقدية، وهو المسار الفكري الذي أوجدته المادية الثقافية والتاريخانية الجديدة، وهو الدافع النقدي المهم، حينما اعترف بالثقافة بوصفها في ما تعني من مفهوم الحضارة، لأن مصطلح الثقافة قد شق طريقه حديثاً على يد إدوارد. ب تايلور عام 1871.