حسين الذكر
يقولون إنَّ العقال قد انفلت وإن عقود الاستبداد والقهر قد اختمرت حد جوع وعطش الإنسان العراقي الى الإحساس بالانفلات والارتماء بحضن المجهول بأي طريقة وإنْ كانت غريبة عن القيم المجتمعيَّة السائدة آنذاك وعبر تاريخها الممتد والمشكل للعقل الجمعي. جراء انتشار بعض الظواهر الغريبة المتجسدة على أرض الواقع بكل مخاطرها الواضحة من دون أي إجراء حكومي أو ثقافي أو سياسي لصد تلك الظواهر التي لا تنتمي الى التراث ولا الى الإرث الحضاري الذي تهتدي بضيائه الشعوب العربية عامة والعراقي
خاصة..
لا نحتاج الى كثير من التفكير كي نهتدي الى ان اغلب زوار احتفالية يوم الجمعة التي تقام بشكل عفوي في المتنبي والقشلة والسراي وعلى ضفاف نهر دجلة بمنطقة جميلة محصورة بارث وحاضر تبحث الناس فيه عن بعض آمالها وتنفس عن كرباتها، في ظل كرنفال ثقافي شعبي يشرعون من خلاله بحرية الطرح بمختلف اتجاهاته بشكل غير مسبوق يعد من حسنات العهد العراقي الجديد بمعزل عن تقييم بعض الطروحات والتوجهات التي تعد افرازا طبيعيا لطموح وخيبة مترسخة.
من المفارقات المضحكة والدالة على مستويات الثقافة وطرق التعاطي مع الواقع، تشير ابسط إحصائية الى ارتفاع نسب زوار المتنبي بمديات اصبح المكان لا يسعها، فيما تشهد مبيعات الكتب انخفاضا ملحوظا مع نسب قراءة متدنية، بظاهرة متناقضة تستحق المتابعة والقراءة واتخاذ ما يلزم بصددها.. فبرغم كل تقنيات التواصل والانفتاح الذي أحال العالم الى مدينة صغيرة يجتمع أبناؤها عبر جهاز اصغر، الا ان قراءة الكتب ما زالت في المجتمعات المتحضرة هي الدليل والحاجة النفسيَّة لإشباع الذات والعقل والضمير والتطلع بقناعة وأمل لمستقبل وغد
افضل..
مما يجعلنا حذرين جراء ما يحدث من ابتعاد مجتمعي عن قراءة الصحف والكتب وحتى مشاهدة التلفاز لأغلب برامجه الجادة والثقافية والعلمية بعد ان اكتفى أغلب مشاهدينا بمتابعة الفواصل الضاحكة المثيرة التنافسية باشكالها
المتعددة.
الاركيلة بمحتواها ومادتها وطريقة تعاطيها المتغلغلة بعمق المجتمع اخذت تستحوذ على كل شيء وتطفو على السطح بصورة مريبة لها مقراتها وكازينوهاتها وتجارتها العلنية الرائجة المربحة مع كل مخاطرها الصحية والمجتمعية التي يحذر منها الأطباء والمؤسسات والحكماء.. إذ تعد اخطر بكثير مما تشكله مضار التدخين الذي كانت سبل مكافحته جلية واضحة، فيما اليوم تمددت الاركيلة وتعمقت في أوصال الجسد والاسرة العراقية حتى أصبحت ظاهرة يعتقد البعض انها هوية حضارية وتعبير راق عن
التمدن.. هنا قد يُطرح سؤال عن الأسباب التي جعلت المواطن العراقي يبتعد عن مصادر العلم والمعرفة والتمتع الصحي والترقي بشكل طبيعي من قبيل التغذية المعرفية وتنوع مصادر الثقافة وانتقاء الأنسب المتناسب مع ذوقية الانسان العربي وطبيعته وتقاليده وأعرافه بعيدا عن التغريب المحتضر.. مع اننا نترك الإجابة لاصحاب الشأن من مؤسسات حكومية ودينية وثقافية وعلمية ترد بطريقتها، بما يؤمن ويعبر عن سلامة الوطن والمواطن
، الا اني وعبر دراستي للتاريخ لا افصل الظواهر المجتمعية بأبسط مظاهرها عن خط ومسار مؤجند وان بدا تافهاً ولا يستحق التفكير.. فان الشعوب المستهدفة تُستخدم اتجاهها كل أنواع وأساليب التنويم والتضليل من وسائل وطرق تصب جميعها بضرورة ان تبقى الشعوب نائمة بعيدا عن المطالبة بأبسط حقوقها
الحياتية.