خابير ثيركاس: لا أكتب رواياتٍ تاريخيَّة

ثقافة 2024/11/13
...

ترجمة: نجاح الجبيلي

يقول الروائي الإسباني خابير ثيركاس المقيم في مدينة جيرونا: في بعض الأحيان أشعر كأنني أفسد الحفلة، وأقول أسوأ الأشياء عن تاريخ بلدي. إنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة، وفكرة الكاتب عن “الأسوأ” تعني الأكثر إثارة للجدل، والأقل حلاً ــ باختصار، كل القضايا غير المحسومة في إسبانيا الحديثة. يقول ثيركاس عن كتبه: “هناك إجابات فيها، لكنها ليست كإجابات الصحفيين، أو المؤرخين، أو القضاة. هذا الغموض هو المساحة التي يمنحها الكاتب للقارئ لكي يجعل الكتاب خاصاً به. فمن دون غموض لا يوجد أدب. هذا هو سحر المسألة”.

في الأسبوع الذي تلا تنازل خوان كارلوس عن العرش، تحولت الأضواء مرة أخرى إلى الدور المتنازع عليه للملك في الانقلاب الفاشل بطائرة “أف-23” في فبراير/ شباط 1981، الذي قام به العقيد أنطونيو تيخيرو وعصابته من المتآمرين العسكريين. إن رواية ثيركاس التسجيلية “تشريح لحظة”، تفوق الكتب الأخرى حول هذا الحدث الذي ما زال غامضاً: فهي تحقيق مدروس بدقة، ولكنه موضوعي جداً في الحدث، وصانعيه، وشبكة الأساطير المنسوجة حوله. يقول ثيركاس: “إن وزن هذا الانقلاب هائل جدّا. بالنسبة لنا، الأمر يشبه اغتيال كينيدي: المكان الذي تلتقي فيه كل شياطين ماضينا القريب”. على الرغم من أن رواية “تشريح لحظة” انطلقت من الخيال الخالص، إلا أنها حملت كل السمات المميزة لثيركاس. كان الهدف من السرد تصفية الحسابات من خلال التنقل عبر متاهة من القصص. في هذه المتاهة، تكمن الحقيقة في أجزاء متناثرة. الحقيقة التاريخية مدفونة، لكنها لا تزال موجودة. يضحك ثيركاس قائلاً: “الآن قررت أنني كاتب ما وراء ما بعد الحداثة”.
ويحدد صنعة الكاتب قائلاً: “ما هو الكاتب؟ الرجل الذي يعتقد بأنه من خلال الشكل من الممكن الوصول إلى حقيقة معينة لا يمكنك الوصول إليها بأي طريقة أخرى”. لاحق ثيركاس الماضي المتغير باستمرار من خلال أشكال الخيال. تستكشف رواياته النقاط المؤلمة والجروح الغائرة في إسبانيا المعاصرة، وتعقيداتها المرسومة بلمسة خفيفة وأسلوب سهل ورشيق يصبح فيه الحوار الآسر سعياً جدلياً واقعياً للحقيقة.
ولد خابير ثيركاس عام 1962 في إكستريمادورا، لعائلة من أنصار فرانكو، وانتقل إلى كاتالونيا حين كان طفلاً. ضجرَ من الأعراف الثقافية المحلية، فلم يكتب باللغة الكاتالونية بل باللغة القشتالية. بعد أن أصدر الروايات الكوميدية السوداء “المستأجر” و”الحافز”، كتب روايته “جنود سلاميس-2001” التي حازت على العديد من الجوائز، وفيها يروي قصة الفاشي الأدبي المثالي رافائيل سانشيث مازاس، والجندي الجمهوري الذي أنقذه بشكل غامض من الإعدام. تتحرى رواية “جنود سلاميس” إغراء النزعة الفرانكوية، بينما تشيد بشجاعة أولئك الذين حاربوها، وتصور الرحلة الطويلة والمتعرجة للإسبان الشباب نحو الواقع المتشابك والمسدود للحرب الأهلية. يميل النقاد الكسالى إلى تصوير هذه الرؤية الرائعة بشكل كاريكاتوري. يقول: “إنهم يريدون معرفة ما إذا كنتُ مؤيداً للفاشية في رواية “جنود سلاميس”، أو مؤيدًا لسواريز [ رئيس الوزراء الذي قاوم الانقلاب] في رواية “تشريح لحظة”. هذا أمر مثير للسخرية. التاريخ لا يعمل بهذه الطريقة”.
في روايته “المارقون” يطبق ثيركاس كل سرده المنشوري في حكاية عن فترة “التحول” بعد وفاة فرانكو. فهذه الرواية تغمرنا في العالم السفلي المنسي للكينكيين. لقد ارتكبت هذه العصابات من الشباب سلسلة من الجرائم وأثارت الغضب عبر إسبانيا في أواخر السبعينيات، ومرّت بالأراضي المحررة مثل زوبعة قصيرة. بالنسبة لثيركاس، كان الكينكيون “مثالًا صارخاً لمزيج الخوف والأمل الذي عاشت به إسبانيا التحول الاستثنائي من الدكتاتورية إلى الديمقراطية. شعرنا بالأمل، لأننا بدأنا نصبح دولة حرة. وأحسسنا بالخوف، لأننا لم نكن نعرف ما الذي سيحدث”.
ويضيف: لقد نظر الناس إليهم على أنهم نتاج ثانوي للديمقراطية وبقايا من الدكتاتورية. تدور رواية “المارقون” حول زعيم عصابة مركب، هو زاركو ذو الشخصية الجذابة من مدينة جيرونا، مسقط رأس المؤلف. هل كان لديه أي نموذج للحياة الحقيقية؟.
يقول: بالطبع، ولكن ليس واحدة فقط. جميع الشخصيات الروائية تشبه الوحش فرانكنشتاين. تستكشف الرواية “نشأة وتدمير أسطورة زاركو” من خلال عيني إغناثيو، الذي أصبح الآن محامي دفاع، والذي انضم في أواخر سنوات مراهقته إلى هذه العصابة. يستطيع ثيركاس أن يتذكر جاذبية آل زاركو, ويقول: “لقد كانوا موضع إعجاب. لقد أعجبتُ بهم. كانوا أحرارا”، كان لديهم المال والفتيات. ويضيف: “كل الروايات منذ دون كيخوته تعمل على مبدأ “ماذا لو؟”. هنا، بطل الرواية الوحيد والمذهول إغناثيو يحمل الكثير من الشبه معي. يعيش في نفس المكان بالمدينة ويذهب إلى نفس المدرسة الثانوية. ماذا لو لم أكن المراهق الطبيعي الذي كنت عليه؟ ماذا لو عبرت النهر ذات يوم والتقيت أفراد العصابات هؤلاء الذين كانوا في كل مكان؟”.
ويتذكر ثيركاس قائلاً: ما كان مذهلاً هو درجة الأسطورة التي كان يتمتع بها هؤلاء المراهقون الفقراء. لقد كانوا تجسيداً لأسطورة عالمية: روبن هود، أو الطفل بيلي، أو قطاع الطرق الصينيين في مسلسل “حافات المياه” من المسلسل التلفزيوني الذي يحبه إغناثيو. يتذكر ثيركاس قائلاً: “مات 99 بالمئة من هؤلاء الرجال بسبب العنف الذي ارتكبوه، فقد أصيب معظمهم بالإيدز بسبب تناول الهيروين وتبادل الأبر. الجميع من جيلي يعرفون الضحايا من كل الطبقات. إنه ثقب أسود في التاريخ”.
لم يؤيد المارقون جنوح “التحول” كما لم يؤيد جنود سلاميس النزعة الفرانكوية. يقول: “في هذه الأسطورة، أخيراً، لا يوجد سحر ولا بطولة، بل فقط اليأس. كل هذه المثالية، وهذه الرومانسية، كانت هراءً”. فهذه الرواية تتمكن من خلال اللعب بالأصوات من فهم الظاهرة من الداخل. تلمع، فالأوجه تلتمع ويتغير الضوء دوماً، كما هو الحال دائماً مع روايات ثيركاس. زاركو “البطل الرائع” يتحول إلى “مريض نفسي مثير للاشمئزاز”. ومع ذلك فإن النسبية ليست كافية على الإطلاق. وفي مواجهة “ديكتاتورية الحاضر”، يجب على الكاتب أن يثابر في التنقيب عن تلك الحقيقة المخفية. يقول ثيركاس: “إن الماضي هو أحد أبعاد الحاضر. أنا لا أكتب روايات تاريخية، بل روايات عن هذا الحاضر الأكبر الذي يستلهم الماضي”.
عن صحيفة الغارديان