بين التورية والبوح.. قراءة سياسيَّة في روايتي حميد قاسم ضد الحرب
جاسم الحلفي
يخوض الأدب العراقي أحياناً مواجهة صامتة مع سلطة القمع والرقابة، حيث تلجأ الأقلام إلى الرمزية لتجنب مصيرها المحتوم أمام أعين الرقيب. تجسد روايتا حميد قاسم، (بيان أول للطفولة القديمة) و(ظهر السمكة)، موقفاً سياسياً واضحاً ضد الحرب والديكتاتورية، وتكشفان عن مسارين مختلفين للتعبير عن هذا الرفض: التورية في ظل القمع، والبوح المباشر بعد سقوط النظام.
يختار قاسم في (بيان أول للطفولة القديمة) أسلوب التورية، مستخدما الحكاية المتضمنة والرموز ليعبر عن موقفه الرافض للحرب، واضعاً بين السطور صوت المثقف العراقي المقيد. أما في (ظهر السمكة)، فينطلق نحو فضاء الصراحة، موجهاً نقده المباشر للديكتاتورية التي حولت الشعب العراقي إلى وقود لحروب عبثية تخدم طموحات النظام.
الأدب في قبضة القمع: الرمزية في مواجهة الديكتاتورية
تستعرض هذه القراءة السياسية للروايتين، كيف عكست أعمال قاسم الأبعاد السياسية والاجتماعية للمرحلتين المختلفتين، وتبرز نجاحه في تجاوز الرقابة عبر التورية قبل تحرره من قيودها ليكشف فداحة ما خلفته الحروب. تحمل روايتاه، كأدب مقاوم، صرخات المثقف العراقي وأحلامه بوطن تسوده الحرية والسلام، بعيداً عن الشعارات الموهومة وأبواق السلطة.
يحمل الإنتاج الثقافي والفكري للكتّاب والمثقفين العراقيين الذين واجهوا سطوة النظام الديكتاتوري التسلطي دلالات توثيقية غنية، خاصة في ظل حروب النظام والحصار الاقتصادي الدولي الظالم على الشعب العراقي. هدفنا ليس استعراض الإنتاج الثقافي تحت قبضة النظام الديكتاتوري، بل السعي لفهم موقف المثقفين الحقيقيين الذين عايشوا الحروب وكوارثها، ورصدوا تداعيات الحصار على الشعب العراقي.
الكتابة عن الحصار أهون من الكتابة عن الحرب، إذ لا يمثل الحصار تهديداً مباشراً للنظام، وإن لم تكن كل الكتابات عن الحصار تأتي في سياق ما يريده النظام أو تتماشى مع سياسته الإعلامية، بل نجد أن بعض المثقفين تمكنوا من التعبير بين السطور عن تحميل النظام المسؤولية. ومع ذلك، ظل التطرق إلى الحرب بوجه نقدي خطراً حقيقياً، حيث كان أي كاتب يدين الحرب علناً، حتى عبر تناول إنساني، يعرض نفسه للخطر، إذ كانت أجهزة الرقابة، التي عيّنها النظام من مثقفيه الموالين، تقرأ بذكاء وفطنة بين السطور وتلاحق المعاني المبطنة، وقد لجأ بعض الكتّاب إلى التورية والرمزية كأدوات للتعبير عن أفكارهم، وكأنهم يكتبون نصاً مفتوحاً على التأويل، يحميهم من قبضة القمع ولو مؤقتاً.
في هذا السياق، يمكننا تناول روايتين بارزتين عن الحرب لحميد قاسم: (بيان أول للطفولة القديمة)، التي صدرت عام 1983 عن دار الحرية للطباعة، و(ظهر السمكة)، التي نُشرت عام 2021 عبر منشورات نابو في بغداد.
بيان أول للطفولة القديمة: أدب في ظل الرقابة
يمكن اعتبار رواية (بيان أول للطفولة القديمة) بمثابة “بيان سري” لإدانة الحرب، تجسد وجهة نظر المثقف الذي عاش تحت رقابة الديكتاتورية. استطاع قاسم ببراعة تمرير موقفه الناقد، مستخدمًا “القلم الأسود” الظاهر و”القلم السري” المخفي، الذي خبأ بين سطوره إدانة واضحة للحرب. تظهر الرواية على السطح كحكاية عن فواجع الحرب على الإنسان، ولكن بين الكلمات، نجد رمزية تندد بالحرب وتشير إلى الديكتاتورية كمشعل لتلك النيران. الكتابة الناقدة لم تكن خياراً سهلاً أمام المثقفين، إذ كانت كل كلمة تحمل احتمالات للمواجهة، وحتى الكتابة المحجوبة بالرموز لم تكن كافية لحمايتهم من قبضة السلطة التي كانت تستهدف كل ما قد يُشكك في سياساتها القمعية.
يقول قاسم في (بيان أول للطفولة القديمة): (أنا وأنت والجميع لا نريد الحرب، ولا تتصورها ملهاة نقضي بها على أنفسنا وعلى الأشياء الجميلة في هذا الكون)، ص19.
يعبر هذا الاقتباس عن موقف قاسم الرافض للحرب، ويعكس رؤية المثقف الذي يتجنب الرفض العلني في ظل قيود السلطة، فيلجأ للرمزية كوسيلة للتمرد الصامت، إذ إن الكتابة ضد الحرب في ظل بطش الديكتاتورية كانت فعلاً من أفعال المعارضة الخفية، فقد كان التعبير عن رأي مغاير أو حتى التلميح بخطاب ناقد أشبه بالسير على حافة الهاوية، فكل كلمة وكل جملة كانت تحت رقابة النظام المتوحش الذي حاصر أنفاس الأدباء والفنانين، ونبش بين السطور ليكشف أي تلميح يدين سياساته. وبذلك اضطر المثقفون لاتخاذ أقصى درجات الحذر، محافظين على رمزية معارضتهم من دون أن يتعرضوا للبطش أو القمع المباشر. ويتعمق قاسم في استعراض تأثيرات الحرب، حيث يكتب: (أحياناً تضطر للقتال حينما لا تجد مهرباً أمامك) ص19. هذا التصريح يبرز كيف تُجبر الديكتاتورية الأفراد على خوض معارك لا تعنيهم، إذ يُحرمون من حرية الاختيار ليصبحوا ضحايا لحرب طاحنة يرفضونها في أعماقهم.
ظهر السمكة: التحرر من الرمزية والبوح الصريح
في المقابل، كتب قاسم (ظهر السمكة) بوضوح كامل وبلا مراوغة، ليعبّر عن مواقفه التي لم يستطع البوح بها علنًا في (بيان أول للطفولة القديمة). اختفت الرمزية والحبر السري، وبدلاً من التلميحات، تناول قاسم في روايته الثانية رفضه للحرب وما جلبته من مآسٍ بشكل صريح.
(بيان أول للطفولة القديمة) تمثل الجزء السري من حكاية الحرب، بينما تمثل (ظهر السمكة) الجزء العلني، حيث يستطيع الكاتب التصريح من دون خوف من الرقابة. يعبر قاسم في الرواية عن معاناة الجندي العراقي المجبر على خوض حروب الديكتاتورية، فيقول: (كنا ننتظر التحاق رفاقنا، لنفرّ أسبوعاً وربما أكثر، من فكرة الموت قتلاً، ووحشة هذا المكان وقسوته.) ص26.
يرسم هذا الاقتباس صورة قاسية عن حياة الجنود العراقيين الذين يعيشون في خوف دائم، ويجبرهم النظام على القتال من دون أمل في الخلاص. ويضيف قاسم عن الجنون الذي تسببه الحرب: (الحرب التي تلتهم الشباب وقوداً لكي يتعاظم مجد الديكتاتور ويتفاقم جنونه وأوهامه) ص29. هنا يعبر عن استيائه من استخدام الشباب العراقي كوقود في حروب عبثية، ليزداد مجد القائد الوهمي، مسلطًا الضوء على العواقب المدمرة لهذه السياسات القمعية.
مفهوم الوطن بين الديكتاتورية والزيف
في (ظهر السمكة)، يقدم قاسم نقداً عميقاً لاستغلال النظام لمفهوم “الوطن” كأداة لترسيخ سلطة الديكتاتور. يقول: (الهروب... يعني بكل وضوح: حكماً بالإعدام يعد الهارب مرتكباً للخيانة العظمى للوطن، لأن خذلان الرئيس القائد وعصيان أوامره خيانة للوطن) ص29. هنا يمزج قاسم بين الوطن والديكتاتور، موضحًا كيف ضاقت حدود الوطن ليصبح أداة تعبد فيها شخصية القائد، وكل من يخالف أوامره يعتبر خائناً.
نظام منتج التخمة والفقر
ينتقد قاسم التناقض الصارخ بين حياة الجندي التي تملؤها الرهبة والموت، وبين حياة أبناء السلطة المترفة. يقول: (سحبني من يدي إلى المصعد القريب لأجد نفسي في قلب المشهد الآخر، بعيداً عن الحرب والقتلى... عراق آخر تماماً، مخملي وناعم، مترف وأنيق، بلا دم ولا راجمات) ص31. تجسد هذه الصورة التفاوت الطبقي الذي خلقته الديكتاتورية، حيث يعيش أبناء السلطة في رفاهية بينما يندفع أبناء الشعب إلى الموت ويضيف: (فيما ينعم هو وأولاده بمتع الحياة وطيباتها؟ نساء وخمر وحفلات وسفرات) ص40 - 41. حضرت هنا رواية (الحرب في بر مصر) ليوسف القعيد، التي تناولت أحداث حرب أكتوبر عام 1973، وركزت على الظلم الاجتماعي والطبقي، حيث يضطر أحد الشباب ابن الفلاح الفقير، للذهاب إلى الحرب بدلاً من ابن عمدة القرية، وعكست ببراعة التفاوت الاجتماعي وازدواجية السلطة في المجتمع المصري.
عبرت رواية (ظهر السمكة) في موضع آخر، عن صراع الموت والحياة في النفس البشرية، فيقول: (كانت ثمة إرادتان في أعماقي تتصارعان في تلك الدقائق الرهيبة المميتة: الموت والحياة، لكن الغلبة للموت. كل شيء يستدعي الموت ويرتبط به ويجعله حاضراً وممكناً: الذهاب إلى الحرب أو عدم الذهاب إلى الحرب، في الحالتين ينتصر الموت، وربما تقودك للموت نكتة سخيفة عن القائد الضرورة لا ضرورة لها، انفعال بسبب السكر أو الغضب، خلاف مع شخص، وربما شجار اعتيادي مع زوجتك يجعلها تبلغ عن هروبك، أو شتيمة وجهتها للسيد الرئيس في لحظة تهور أحمق!) ص43.
وثيقتان أدبيتان عن تراجيديا الحرب
تعد روايتا (بيان أول للطفولة القديمة) و(ظهر السمكة) وثيقتين أدبيتين وإنسانيتين عن تراجيديا الحرب في العراق تحت الحكم الديكتاتوري. لقد استثمر قاسم الأدب كأداة مقاومة، مستخدماً الرمزية للتعبير عن معارضته للحرب في روايته الأولى، وتحرر من الرمزية في روايته الثانية، ليفصح عن آرائه تجاه النظام. الأدب في أعمال قاسم لا يعكس فقط معاناة الجندي والمثقف العراقي، بل أيضاً روح المقاومة الصامتة.
أصبحت روايتا حميد قاسم، بفضل أسلوبهما المتميز، شهادة حية عن تضحيات العراقيين الذين واجهوا مصيراً قاتماً تحت رحمة السلطة. إن الأدب، في سياق روايات قاسم، لم يكن مجرد سرد للقصص، بل جاء كوسيلة للتعبير عن الألم الجماعي، والإشارة إلى الأثر المدمر للسلطة القمعية في حياة العراقيين. من خلال رؤيته الأدبية، اختار قاسم أن يكون صوتاً للإنسان العادي، الذي وقع ضحية للقرارات السياسية الظالمة، محاولاً إحياء قيمة السلام في زمن طغى فيه عنف السلطة.
كلمة المثقف العراقي بوجه التزييف
تعد روايتا (بيان أول للطفولة القديمة) و(ظهر السمكة) تجسيداً عميقاً لموقف المثقف العراقي في ظل الديكتاتورية، حيث استطاع قاسم نقل المعاناة التي عاشها العراقيون بأسلوبين مختلفين: أسلوب التورية الرمزية في ظل الدكتاتورية، وأسلوب الصراحة المباشرة بعد سقوط النظام. عبر الأدب في هاتين الروايتين عن روح المقاومة التي كانت تنبض في قلوب المثقفين والشعب العراقي على حد سواء، ليبقى الأدب، رغم كل القيود، وسيلة لفضح استبداد الأنظمة وإظهار حقائق المعاناة.
بفضل هذا الإنجاز الأدبي، يبرز حميد قاسم كصوتٍ أدبي يعبر عن وجدان شعبه، حيث يثبت أن الأدب، حتى في أحلك الأوقات، يمكن أن يكون سلاحاً قادراً على كشف الاستبداد وفضح استغلال الأنظمة لمفهوم “الوطن” لترسيخ السلطة. ومن خلال نصوصه، يعيد قاسم التأكيد على أن المثقف الحقيقي يجب أن يقف ضد الحروب وضد كل أشكال الاستبداد، ليظل صوت الشعب وإرادة الحرية، وليعبر عن وجدان مجتمع يسعى إلى السلام والكرامة بعيداً عن قمع السلطة.
ختامًا، يمكن القول إن روايتي حميد قاسم، بفضل تميزهما في السرد وقدرتهما على تجسيد أوجاع الشعب العراقي، تشكلان منارة أدبية تضيء جوانب المعاناة الإنسانية التي خلفتها الديكتاتورية، وتظل تذكيراً بقدرة الأدب على أن يكون شاهداً على التاريخ ورافعاً لصوت من لا صوت لهم.