جدلٌ وتساؤلاتٌ عن خصوصيَّة قراءة المنجز الأدبي

ثقافة 2024/11/17
...

  استطلاع: صلاح السيلاوي

يدور في أروقة الثقافة العراقيَّة، حديث لم يكن متداولاً من قبل، عن طبيعة المشاركات النقديَّة في مهرجانات الشعر والسرد والثقافة العراقيَّة بشكل عام، إذ انتقد عدد ليس بالقليل من مثقفي البلاد اتجاه إدارات المؤسسات الثقافيَّة لجعل هذه المشاركات مقتصرة على النقاد الأكاديميين وإبعاد نقاد المشهد الثقافي الذين ينظرون للمنجز الأدبي عبر معايير مختلفة عن مثيلاتها في الدراسة الأكاديميَّة، وهذا جدل كان يشيع بعد كل مهرجان تقيمه المؤسسات المعنية.
الجدل الثقافي يمثل عافية لجسد المعرفة وسبيلا للوصول إلى الحقيقة، تلك الحقيقة التي تدل عليها علامات الاستفهام في عيون العارفين أو الباحثين عن الحقيقة.
الجدل هنا بشأن هيمنة الرأي النقدي الأكاديمي على فعاليات اتحاد أدباء العراق بأغلب فروعه قد يشير بمضامينه إلى ما يريده بعض النقاد من انفلات مقصود من الأسس النظريَّة والإجرائيَّة لدراسة وبحث المنجز الأدبي والثقافي، وهنا يظهر للمتتبع تساؤل حول مدى تقديم رؤى جديدة خارجة عن أطر الفهم السائد للمنجز الأدبي، لأنَّ قراءة النصوص على وفق معايير ثابتة قد يؤدي إلى قراءات محدودة وغير قادرة على الوصول إلى رؤى جديدة حول فهم النص وتلقيه.
أرى أن من يدافع عن وجود توازن بين الرأي الاكاديمي والآخر الحر حول النص، يسعى إلى صناعة جو معرفي خاص يقدم من خلاله الناقد الذي اعتاد قراءة النصوص على وفق مرجعيات ثقافية معينة، يقدم فهما قد يكون خاصا أو جديدا، أما الناقد الأكاديمي الذي ينطلق للنص من ممكنات المناهج النقدية السياقية والنسقية عبر مدارس متعددة فهو يدعم الفكر النقدي بما يمتلك من رصانة وأسس.
أجد أن هذا التوازن يمثل فرصة قيمة لصناعة إطلالة جديدة على حيوات النصوص والمجالات الإبداعيّة الأدبيّة والفنيّة بشكل عام.
فقد يجد الأكاديمي المتشرّب بمعاييره أن الحرية في تناول النص قد تقدم جديداً فيما قد يرى الذاهب للنص بحرية تامة أن به حاجة للالتزام بمعايير الاكاديمية، بالنهاية لا جديد من دون خروج على السائد، وكل جديد من الأفكار متهم في بداية ظهوره، وقد يكون محارباً أيضا.
تزدحم الملتقيات والمهرجانات الثقافية العراقية طالما ازدحمت بحوارات عميقة وهادفة، ويمثل اصطدام الافكار الجديدة والقديمة والسعي للكشف عن مفاهيم النص ومعانيه أهم جدل.
تتبعت آراء بعض المثقفين من الذين كانوا أطرافَ في هذا الجدل الثقافي بشأن عدم توازن وجود الناقد الأكاديمي وغيره في المهرجانات واطلعت على ماهيات ما طرحوه.

هيمنة الناقد الأكاديمي
الناقد أمجد نجم الزيدي، يشير في بداية رأيه إلى رغبته في تقديم توضيح لوجهة نظره كي لا تُفهم على نحو خاطئ، ويلفت إلى أنه لا يقصد من حديثه انتقاد الأساتذة الأكاديميين أو التقليل من شأنهم، بل يقدم رؤية قد تصيب أو تخطئ، يبتغي من ورائها طرح فكرة حول واقع يراه يتجسّد في المشهد الأدبي العراقي.
ويبين: هنالك هيمنة متزايدة للأكاديميين على المؤتمرات والمهرجانات التي ينظمها اتحاد الأدباء بفروعه، مؤكداً أن هذه الهيمنة تحمل في طياتها جوانب إيجابيّة وسلبيّة، إذ لم يكن هذا التأثير الأكاديمي بمثل هذا الحجم من قبل. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، بحسب الزيدي، البحوث التي تقدم في مهرجان النفري الذي يقيمه اتحاد أدباء الديوانية.
ويضيف: كنا نقدّر ونحترم جميع الزملاء الأكاديميين وما يحملونه من تخصصات علميَّة لها مكانتها الرفيعة، إلا أنَّ غياب الآراء النقدية الخارجة عن الإطار الأكاديمي يظل أمراً مؤسفاً، فمن دون هذا التنوع، ستنحصر هذه البحوث والطروحات في أطر مغلقة، تدور في فلك واحد من دون فسحة للرأي الحر، الذي غالباً ما يأتي به النقاد والمبدعون من خارج الأكاديميات، إنَّ هذه المساحة التي يمثلها الناقد هي ما يمنح النقاش بُعداً وانفتاحاً ويُضفي عليه حيويةً وتنوعاً قد نفتقده إذا ما اقتصر الحضور على الأكاديميين وحدهم.  
ويقول الزيدي أيضا: أنا لا أتحدث عن وجود الاكاديميين بقدر ما أتحدث عن استبعاد الناقد الذي لا يمثل الاكاديمية، وأقصد الناقد المتمكن من أدواته وليس كل من يحمل صفة ناقد بالتأكيد. تتشابه الأمور أحياناً في عمل بعض المهرجانات وكأنّه مؤتمر تقيمه الجامعة.
ويتابع أن: مهرجانات ومؤتمرات اتحاد الأدباء لها صبغة تختلف عن تلك المؤتمرات حيث يعلو فيها صوت الآراء الجريئة التي تتمرّد على القوالب والصيغ الاكاديمية الجامدة.
ويضيف موضحاً أن: ظاهرة لم تكن مألوفة في أنشطة الاتحاد، وقد ذكرت أنها تحمل جوانب إيجابية وأخرى سلبية، هي هيمنة حاملي الألقاب العلمية على جلسات تلك الأنشطة، لم يكن هدفي التقليل من شأنهم، وإنما رأيي أن لا تُغلق تلك الأنشطة عليهم فقط، وكأنّها أشبه بمؤتمر أكاديمي تنظمه إحدى الجامعات وليس اتحاد الأدباء، فلو ألقيتَ نظرة على المشاركين في المحور الفكري لمهرجان النفري، لوجدتَ أنهم جميعاً أساتذة جامعات، بل إن اللقب العلمي واسم الجامعة قد أُرفق بأسمائهم. معظمهم أسماء علمية لها مكانتها، ولكن ينبغي أن يُطعَّم هذا النسيج بآراء من خارج هذا الوسط، وهذا هو ديدن الاتحاد منذ زمن طويل.

نقد إبداعي وأكاديمي
الشاعر والناقد أحمد الشطري، تحدث عمّا يراه من فرق بين النقد الإبداعي والنقد الأكاديمي المحض الذي يسير في إطار جامد قد يكون ملتزماً بالمحددات المنهجية في جانبها الشكلي من دون أن ينفذ إلى عمق النص، على حد وصفه.
ويشير إلى أن هذا ما عليه الكثير إن لم تكن الغالبية من الأكاديميين وهو لا يمثل لهم أكثر من واجب مدرسي.
ثم يضيف الشطري بقوله: لكن هذا لا ينفي وجود أكاديميين يمتلكون عمقاً في الرؤية ووعياً نافذاً يحلق في سماء النص بجناحين فارهين. وهؤلاء هم أصلا موهوبون قبل أن يستظلوا بالسقف الأكاديمي. مشكلة مؤسساتنا أنها تنظر إلى العنوان أكثر مما تنظر إلى المحتوى.

هنا وهناك
من جهته يشير الناقد الدكتور وسام حسين العبيدي، إلى أنّه لا يعدّ كل أكاديمي ناقداً، بل إن كثيراً منهم قد لا يجيدون تدريس موادهم التي تخصصوا فيها ببراعة وحذق. لكنّ العبيدي في ذات الوقت يؤكد أنه لا يجد كل ناقد خارج السور الأكاديمي، ناقدا بارعا، وأنه يعرف أسماءً من هؤلاء الذين ليس لديهم لا بعد نظر، ولا مواكبة للجديد من الأفكار، بل أكثر من ذلك، إذ يؤكد العبيدي معرفته بمن لا يجيد كتابة جملة مفيدة لجهله المفرط بقواعد اللغة العربيَّة، وجهله بعلامات الترقيم، وجهله بضوابط التوثيق من المصادر. وهؤلاء أجدهم أيضا متسيدين في أكثر المحافل، فلنا جميعاً الحق في انتقادهم لتهافتهم في كل مناسبة أو مهرجان.

مهرجان النفري الثقافي
رئيس اتحاد أدباء الديوانية، الباحث كامل داود تحدث عن هذا الجدل في ما يخص مهرجان النفري الذي كان أحد محاور الحديث عن مشاركة النقاد الأكاديميين في المهرجانات التي تقيمها اتحادات أدباء العراق في بغداد والمحافظات ويقول: مهرجان النفري الثقافي، هو مهرجان ذو منحى فكري، أردنا به التعريف بهذه الشخصية الفذة - النفري -  وقد أعلنا قبل مدة زمنية عن طبيعة المهرجان وأهميته في إضفاء هوية ثقافية لمدينتنا تستمد جذورها نسغ الأصالة من مدينة (نفر) التاريخيَّة، لذا استكتبنا من نرى له دراية بهذا المضمار، ثم يشير داود مخاطباً الناقد الزيدي بقوله: إنه كان في الوقت متسع أن تقترح علينا من تراه يحقق لنا هدف المهرجان ببحثه.

عدم التعميم
بدأ الناقد الدكتور صباح التميمي حديثه بالرد على ما قدمه الزيدي من رأي مشيراً إلى أنه متيقّن بأن الزيدي يقصد المزيّفين. لكن رأيه كما جاء هكذا (غياب الآراء النقدية…)؟! فيه تعميم للأسف.
ويوضح التميمي أنّ النقديّة العراقيّة، والعربيّة قبلها قائمة على الأكاديميين: الدكتور صلاح فضل، الدكتور عبد الملك مرتاض، الدكتور عبد الله الغذامي، الدكتور علي جواد الطاهر، الدكتور عناد غزوان، الدكتور حاتم الصكر، الدكتور عبد الله إبراهيم، الدكتور محمد صابر عبيد، والقائمة تطول.. والجميل في الموضوع أن غير الأكاديمي لا يمكن له أن يغادر جهود هؤلاء من دون أن يبني اشتغاله عليها. تمنيت على الزيدي أن يقول: (في بعضها أو كثير منها) ليصبح الرأي أكثر مقبوليَّة، بل وأصبحُ معه به.
واحدة من الأشياء التي تُقعّد لها الأكاديميّة الحقيقيّة "عدم التعميم" و "ضبط المصطلح"  و "المعيار" وهذا ما يفتقر له "معظم" النقد الصحفي.. على الرغم من أنك قد تجد في بعض التجارب غير الأكاديمية ضبطاً قد يفوق الأكاديمي النمطي، لكنك حين تبحث جيّداً، ستجد أن مرجعياته أكاديمية بحتة.. لا أريد أن أتحدث بلغة التفضيل، لكن الواقع هكذا يقول.