أحمد الشطري
يعد مفهوم التناص واحداً من المفاهيم أو المصطلحات التي يصعب تحديد تمثلاتها بشكل دقيق؛ ولعل السبب في ذلك هو اختلاف وجهات النظر في ماهية آليَّة التناص، وهل هو فعل إرادي أم غير إرادي، بمعنى هل يعد الاقتباس أو التوظيف الواعي تناصاً، أم أن التناص يتحدد بتلك الملامح الخفية التي تتسلل إلى نسيج النص بشكل لا إرادي أو غير واعٍ من منتج النص.
ويبدو أنَّ هذا الالتباس المفاهيمي ناتج عن اختلاف القراءات العربيّة بشكل خاص لآراء "جوليا كرستيفا"، باعتبارها المُجْترِح الأول لهذا المصطلح، وترى كرستيفا وفقا لـ "جراهام ألان"، في كتابه نظرية التناص، أن "الكتّاب لا يخلقون نصوصهم من عقولهم المبدعة، ولكنهم يقومون بتجميعها من نصوص أخرى" مستنداً بذلك على قولها في نص مترجم إلى الإنكليزية تحت عنوان (النص المقيد: 1980) والذي تقول فيه إنّ: "النص تعديل لنصوص أخرى، أي تناص في فضاء نص معين.. تتقاطع فيه الأقوال المتعددة المأخوذة من نصوص أخرى وتحول من دون تأثير بعضها في بعض".
ويبدو لي أنّ تفسير "جراهام" لرؤية "كرستيفا" أو للرؤيتين معاً إذا ما اتفقتا في المعنى؛ أنهما ينطويان على شيء من المبالغة أو التطرّف، إذ إن لكل نص فرادته عن النصوص الأخرى وخصوصياته الفكريّة والأسلوبيّة- كما نرى-، وهذا لا يمنع من تسرّب بعض الرؤى والأساليب للنصوص السابقة في بعض جزئيات النص، وفقاً للمقولة الشهيرة: "ما الأسد إلا خراف مهضومة"، فالخزين المعرفي للمبدع هو نتاج ما قرأه وتعلمه من نتاج السابقين، وهو إنما يعيد هضمه وتمثيله، ولكنه في ذات الوقت ومن خلال منظومته العقلية قادر على إنتاج افكاره الخاصة التي تختلف حتى ولو بجزئيات صغيرة مع من سبقه، فالعقل البشري منظومة متحركة وفاعلة، وفيها من المرونة ما لا تشابهها أي منظومة انتاجية مصنعة، وإذا ما أمعنا الفكر فسنجد أن أكثر ما تنطبق عليه رؤية كرستيفا وتفسير جراهام بصورة تامة، هو تلك النصوص التي تنتجها برامج الذكاء الصناعي، سواء في كتابة نصوص شعرية أم في ما يتعلق بتقديم رؤى نقدية لما تزود به من نصوص، فهي رغم ما تتمتع به من قدرة خارقة على استدعاء ما غذيت به من معلومات، وتوليف دراسات تنطوي على الكثير من المبررات المقنعة، بل المثيرة، إلا أنها تبقى غير مؤهلة لإنتاج الأفكار البكر.
وملاحظتنا تنصب بشكل خاص على عمومية التوصيف الكرستيفي للنص، وليس لمفهوم للتناص الذي يرى "بانطواء النص على تناصات محددة مع نصوص أخرى من دون الحكم على كلية النص". ووفقا لهذا المفهوم فإننا نرى أن أغلب حياتنا هي عبارة عن تناصات، إرادية ولا إرادية. بدءاً من طريقة كلامنا وتناولنا للطعام وطريقة سيرنا، وحتى طرق تفكيرنا، فكل تصرفاتنا وأفعالنا ما هي إلا تناصات مع قيم وأخلاقيات ومفاهيم وأساليب جرى إدخالها في ذاكرتنا بشكل أو بآخر، فهي تظهر وتتجسد في حياتنا اليومية بشكل طبيعي، وتتم استعادتها وتنفيذها أو تطبيقها إراديا أو لاإراديا وكأنها من ابتكاراتنا أو اجتراحاتنا.
إنَّ عملية إدخال هذه المعلومات الأخلاقية والأساليب الحياتية والمفاهيم الثقافية والاجتماعية والعقائدية تتم بشكل تدريجي منذ أول يوم نفتح فيه أعيننا لنرى هذا العالم، وهذه التغذية المستمرة لمنظومتنا المعرفية تشترك فيها مجموعة من المرسلات المحيطة بنا والتي تتداخل مع تفاصيل حياتنا بصورة مستمرة.
ولكن ذلك لا يمنع من أنّ كثيراً منا يعمد إلى رسم مسار ينحرف عن المخطط الحياتي الذي ترسخت خطوطه في منظومته الفكرية، ومن خلال هذه الانحرافات النصيَّة تتوالد خطوط ومسارات تمنح الحياة ديمومتها وتطورها، وتعمل على كتابة نصوص حياتية بكر لم تخطر في أذهان السابقين، ولا تلتقي مع مرسلاتهم التي غرسوها في نفوسنا، ولولا هذه الانحرافات النصيَّة لأصبحت الحياة تسير بوتيرة واحدة ومكررة، وهو ما يتناقض مع كم المتغيرات الواضحة والتي لا تحتاج إلى كثير من الجهد للاستدلال عليها، سواء في نصوص المدونات الكتابيّة أم في النصوص الحياتية المعاشة.