هاروكي موراكامي: المدينة وجدرانها

ثقافة 2024/11/24
...

  جوناثان راسل كلارك

  ترجمة: رؤى زهير شكر 

يصف هاروكي موراكامي، في روايته الجديدة "المدينة وجدرانها غير المؤكدة"، المخلوقات السحرية التي تعيش في المدينة خيالية تحمل عنوان الكتاب: "في الخريف، تحسباً لموسم البرد المقبل، حيث كانت أجساد الوحوش مغطاة بطبقة لامعة ذهبية من الفراء". وهذه هي الطريقة التي يصف بها موراكامي لأول مرة وحيد القرن الأسطوري في روايته "بلاد العجائب القاسية ونهاية العالم"، التي نشرت في اليابان عام 1985 وترجمت إلى الإنجليزية عام 1991: "مع اقتراب الخريف، تنمو طبقة من الفراء الذهبي الطويل فوق أجسادهم".

في كلتا الروايتين المذكورتين، تدوي أصوات البوق فوق المدينة، فيما تنظر الحيوانات في رواية "بلاد العجائب القاسية" إلى الأعلى، وكأنّها تستجيب لذكريات بدائيّة، بينما في الرواية الجديدة "ترفع الحيوانات رؤوسها نحو الذكريات القديمة". ولأن الكتابين قد تُرجما من اليابانية بواسطة مترجمين مختلفين وهما (فيليب غابرييل مترجم رواية "المدينة"، وألفريد بيرنباوم مترجم رواية "بلاد العجائب القاسية")، فقد تكون هذه المقاطع متطابقة في الأصل، ولكن مهما كانت الحال، فنحن لا نتهم موراكامي بالسرقة الأدبية: بل إنه كان تكراراً مقصوداً.

تدور أحداث رواية "المدينة وجدرانها غير المؤكدة" جزئياً في المدينة الغامضة نفسها التي ظهرت في رواية "بلاد العجائب القاسية". إلا أن هناك بعض الاختلافات الطفيفة، ولكنها لم تتغير تغيراً تاماً. علاوة على ذلك، فإنّ الصفحات المئة والعشرين الأولى من رواية "المدينة وجدرانها غير المؤكدة" تروي قصةً من العمل السابق: حيث يدخل راوٍ مجهول الاسم المدينة، غير متأكد من كيفية وصوله، تتم إزالة ظله "حتى لا يُسمح لأي شخص بدخول المدينة بظل سليم"، تغيير عينيه ليصبح قارئ الأحلام "وهذه تُعد وظيفة غامضة يتم تكليفه بها ولكنه لا يفهمها"، يتعلم التنقل بالحبال لهذا المكان الغامض، يرسم خريطة للمنطقة، يتآمر مع ظله للهروب، يصل إلى نفق حيث يمكنه الخروج - ويقرر في النهاية البقاء، ويطلب من ظله الاستمرار من دونه.

تختلف تفاصيل قصة الراوي الخلفيَّة، إلا أن نقاط الحبكة، لحظة بلحظة، هي ذاتها. في ختام الرواية الجديدة، يشرح موراكامي كيف كان هذا المكان جزءًا من خياله الأدبي منذ بداية حياته المهنية. حيث أنه في عام 1980، بعد وقت قصير من فوز روايته القصيرة الأولى "استمع إلى غناء الريح" بجائزة كبرى، نشر قصة طويلة بنفس عنوان هذه الرواية إلا أنه لم يكن راضياً عن النتيجة، ولم يعد لنشرها أبداً في شكل كتاب. بدلاً من ذلك، أدرج الفكرة فيما بعد في رواية "بلاد العجائب القاسية ونهاية العالم". حيث وظف المدينة بشكلٍ ممسرح لنصف تلك الرواية فقط، ولا بدَّ أن موراكامي شعر أن هذا المكان السحري لا يزال لديه إمكانيات سردية غير مستغلة.

في رواية "بلاد العجائب القاسية"، كانت المدينة "على الرغم من عنوان الكتاب الجديد، إلا أنه لا يُشار إلى المدينة أبدا" إنها موجودة فقط في ذهن البطل، نتيجة لعملية جراحية لتقسيم الوعي لا تختلف عن العملية التي تم استكشافها في برنامج "Severance" التلفزيوني. أما في رواية "المدينة وجدرانها غير المؤكدة"، المدينة كانت أرضا خيالية اخترعها مراهقان عاشقان. على الرغم من أن المدينة هي نفسها، إلا أن هذه الرواية لا علاقة لها بالرواية السابقة.

في الصيف الذي يبلغ فيه الراوي الذي لم يتم ذكر اسمه 17 عاماً، يلتقي بفتاة تبلغ من العمر 16 عامًا، ويقعان في الحب. تروي له الفتاة قصصا عن "مدينة محاطة بسور مرتفع"، كما يُشار إليها غالبا بدلاً من الاسم الفعلي. حيث تدعي أنها عاشت هناك وهربت، لكنها ليست شخصاً حقيقياً، بل إنها مجرد ظل. حيث ينبهر الراوي بهذه الفتاة/ الظل "التي لم يتم ذكر اسمها أيضا" والعالم الذي تصفه. وبعد فترة قصيرة من لقائهما، اختفت الفتاة، وهو مشهد مألوف في أعمال موراكامي.

ومع تقدم الراوي في العمر، لا يتعافى أبدًا من فقدانه لحبيبته الشابة فجأة. بطريقة ما، وبعد أكثر من عقد من الزمان، يستيقظ ذات يوم في حفرة في بلدة محاطة بسور مرتفع ويجد حبه المفقود يعمل في مكتبة المدينة. حيث أنها بقيت في السادسة عشرة من عمرها ولا تتذكره - لا أحد في البلدة يتذكر أي شيء من الوقت الذي قضاه خارج الأسوار. وهذا هو السبب الذي جعله يقرر البقاء ويسمح لظله بالهروب من دونه.

بمجرد رحيل الظل، يستيقظ الراوي مرة أخرى في عالمنا المعتاد "لم يتم تفسير منطق هذه الانتقالة". لماذا عاد؟ وماذا سيفعل الآن بعد عودته؟ أثناء محاولته الإجابة عن هذه الأسئلة، يواجه شبحاً وصبياً عبقرياً وقططاً وموسيقى الجاز والموسيقى الكلاسيكية وجميع العناصر الأخرى التي توجد عادةً في روايات موراكامي.

الآن هو في منتصف السبعينيات من عمره، كان موراكامي من المتنافسين الدائمين على جائزة نوبل ويملك تأثيراً كبيراً على الخيال المعاصر في جميع أنحاء العالم. إن خيال موراكامي فريد من نوعه، حيث أنه مزيج من الثقافة الشعبية وما بعد الحداثة والأساطير اليابانية، كما أنه يشكل مساهمة فريدة من نوعها في الأدب. إلا أن العودة إلى مثل هذا الإطار الروائي المألوف، إلى جانب توظيف المؤامرات والموضوعات التي يفضلها، يضيف شعوراً أكبر بالتعب، على الأقل بالنسبة الى القارئ. 

في مقابلة أجراها معه الروائي جون راي لمجلة باريس ريفيو في عام 2004، وصف موراكامي ما اعتبره "هواجسه" السردية: "لقد تخلى رجل عن هدف رغبته، أو فقده بطريقة أو بأخرى، وانجذب بسبب عجزه عن نسيانها إلى عالم موازٍ يبدو أنه يقدم إمكانية استعادة ما فقده، وهي إمكانية لا يمكن للحياة كما يعرفها (والقارئ) أن تقدمها أبدًا". 

إنَّ القراء المتفانين لموراكامي يعرفون هذه الهواجس جيداً، وقد يشعرون بالركود الذي يسيطر عليهم هنا. ربما يكون أولئك الأقل دراية بموراكامي مفتونين بعوالمه كما كنت ذات يوم وأتمنى أن يحدث ذلك مرة أخرى في المستقبل.


(واشنطن بوست)