د. أحمد جارالله
كتب نزار قباني "قارئة الفنجان" بوصفها قصيدة أولاً، فيها شروط الشعر الفنية الحديثة على مستوى التقنيات والموضوع، وقبل أن ينشرها أرسلها إلى حليم وأبلغه أنه الأنسب لغنائها "حسب قول حليم في لقاء تلفازي"، ثم نشرها في ديوان "قصائد متوحشة" عام 1970، وربما توقع أنّها ستنال إعجاب حليم كونها مقاربة لمسيرته الحياتية الرومانسيّة وما عاش فيها من معاناة مع المرض والحب، فضلاً عن طابعها السردي الجديد الذي يغاير طبيعة الأغنية العربية المألوفة حينذاك، وهذا ما اتفق عليه حليم ونزار في لقاء تلفازي بُث لاحقاً بعد الاتفاق على القصيدة وعلى إجراء بعض التعديلات عليها لضرورات تحولها إلى أغنية.
كتب قباني قارئة الفنجان في فترة شهدت ميل شعر التفعيلة أواخر الستينيات إلى التجديد في موضوعاته، وكان التطلع إلى "المثال" أو "المطلق" أو "الانموذج" في كل موضوع واحداً من الأفكار النخبوية في تيار الحداثة الشعرية التي أرادت من الشاعر أن يكون رائيا، فاستدعى الشعراء الرموز الأسطورية والدينية والتاريخية، ولهذا أيضا أهمل أغلب الشعراء، مثلا امرأة الواقع العادية، واتجهوا للبحث عن المرأة المثال في الجمال والحب، المرأة "المؤسطرة" التي كلما توقع الشاعر الوصول إليها اختفت وتلاشى حضورها، فيتلذذ الشاعر رومانسياً باستمرارية البحث عنها والسعي خلف ظلالها أكثر من لذة الوصول إليها، في سياق صوفي أو سحري تتجلى فيه أمام الشاعر أحياناً في كل شيء بطريقة الحلول، أو لا شيء في آن واحد، فعل ذلك مثلا الشاعر حسب الشيخ جعفر في أغلب قصائده لا سيما المدورة ومنها "خيط الفجر" و "زيارة السيدة السومرية" حتى شكلت ظاهرة في موضوعات شعره ومثله أيضا البياتي في قصيدته "أولد وأحترق بحبي" وبحثه المحموم عن "لارا"، وسار على هذا النهج نزار قباني في "قارئة الفنجان" مستعيناً بعوالم العرافات والخرافة الذي يتيح التنبؤ الحر الحلمي والأسطوري للذات البطلة "قارئة الفنجان" المعادلة رمزياً لمهمة الشاعر الرائي، وسمة التنبؤ واحدة من سمات بطل الحداثة الذي أُريد له أن يكون إنسانا خارقا قادرا على استشراف المستقبل مثل سندباد خليل حاوي في رحلته الثامنة.
إذن، في هذا السياق الفني للقصيدة الحديثة تخلى نزار في "قارئة الفنجان" عن الكتابة حول تفاصيل المرأة العادية التي كانت بطلة أغلب قصائده وتوجه مع "الموجة الحداثيّة" نحو المرأة المثال أو كما يسميها د.جلال الخياط "الرمز المستحيل" في مبحث بكتابه "المنفى الملكوت" وعقد فيه مقارنة بين القصيدتين السابقتين، فقال: (قصيدة "أولد واحترق بحبي" لعبد الوهاب البياتي التي كان فيها يبحث عن لارا، لها وشائج بقصيدة نزار قباني "قارئة الفنجان"، فهما خلاصة تجربة شاعرين عرفا أنّ المرأة المستحيل أو المرأة التي يريدان لا وجود لها على هذه الأرض البوار، وعبرا بدقة عن محنة الفنان في كل زمان ومكان بمنحى درامي رائع في ابتداع الشعر).
وقد أُنجزت "قارئة الفنجان" كأغنية عام 1976، وكانت آخر أغنية لحليم على المسرح قبيل وفاته في آذار عام 1977، ولا علاقة للقصيدة حينما كتبها نزار بأي تفسيرات سياسية ذات صلة بعبد الناصر الذي كان البطل القومي المفضل عند نزار، وإنما كانت دوافع كتابتها "فنيّة" بحتة كما بيناها، ذات صلة بطبيعة اتجاه القصيدة الحديثة إلى البحث عن المثل العليا في موضوعات الحياة، ومنها موضوع المرأة، التي تمظهرت مثالاً مطلقاً يستحيل الوصول إليه في قصيدة "قارئة الفنجان"، ولأن نزار قباني يبحث عن جمهور أكبر دوماً والأغنية تمهد لهذا الهدف، وكونه خاض تجربة ناجحة مع عبد الحليم حافظ في "رسالة من تحت الماء"، فقد قدم "قارئة الفنجان" إلى حليم في ذروة معاناته مع المرض، ومع تجربة الحب التي قيل إنّها ارتبطت بفنانة معروفة، فضلاً عن ذروة نضجه الفني في الأغاني الطويلة التي كانت بحاجة إلى التجديد و"قارئة الفنجان" بطابعها الدرامي والسردي والصوفي تقدم هذه الإمكانيات جميعاً التي جعلتها من أرقى الأغاني في التاريخ الموسيقي العربي، وعصية على أي تأويل مشوه مقلوب يجر هذه القصيدة العظيمة المغناة إلى مستنقع الغرض السياسي.