تسخيرُ الخيالِ الأدبيِّ في صناعةِ المستقبل
ريبيكا براون، أورلا ليهان
ترجمة: فارس عزيز المدرس
هناك على الدوامِ حاجة ملحة إلى تسخيرِ الخيالِ؛ لإيجادِ طرقٍ تحويليِّة للتفكيرِ في المستقبل المحتمَل والبديل. والتفكيرُ بالمستقبل - من خلالِ الأعمالِ الأدبية - بات رهين التحوُّلِ الاستباقيِّ في أبحاثِ المستقبل؛ شأنه شأن أية علومٍ أخرى.
يجري التعاملُ مع التفكير في المستقبل بوصفه "عمليةً إبداعيةً واستكشافاً، فالمستقبلُ الأدبي جزءٌ من هذا التحوُّلِ؛ بعيداً عن المناهج التكنوقراطية التقليدية في التفكير المستقبلي؛ التي كانت تميل إلى الاعتماد على أساليب التنبؤ والاستشراف والاستقراء. وتستند تلك التقنياتُ على فرضيةٍ مفادُها أنَّه يمكن استخدام المعرفة الحالية والماضية للتنبؤ بالمستقبل، وتفترض مستقبلاً موجوداً مسبقاً يجب اكتشافه، وتميل هذه المنظورات التقليدية إلى الاعتمادِ على البيانات، وتركِّز على تمييز واستقراء الأنماط؛ والتفاعل معها، لكنها تتجاهل جوهرَ الاختلاف والانفتاح على المستقبل.
مِن خلالِ تصورِ المستقبل كعالمٍ مجرَّد وليس ظاهرة معاشة فإنَّ مناهجَ التنبؤ التقليدية تترك مساحةً صغيرة لـ "المستقبل العاطفي"، أي لتخيل كيفية الشعور بالمستقبل للأجيال القادمة من البشر. وإذا كان الانخراطُ في المستقبل شأناً اجتماعياً ومنتجاً بشكلٍ تعاونيٍّ فستكون هناك حاجة إلى سردياتٍ وأدوات إضافية، ولا ينبغي لهذه المناهج أنْ تكتفي بالاعتراف بأنَّ المستقبلَ يسكنُه فاعلون بشريون "وغير بشريين"، بل ينبغي أنْ تستفيدَ من الخيالِ كمورِّد حيويٍّ لاستكشاف مستقبلٍ مختلفٍ عن الحاضر.
انطلاقاً مِن هذه الفرضيةِ تسعى طريقةُ المستقبل الأدبي إلى تسخير الإمكانات المتنوعة للأدب في مجالاتِ التفكير والعمل مِن أجل المستقبل، وتقف جنباً إلى جنب مع مجموعةٍ من الأساليب التي تستخدم السردَ والخيال ورواية القصص لتخيُّل مستقبلٍ محتملٍ (بشكل مختلف)، وقد تمَّ اعتمادُ هذه الأساليبَ عِبر مجموعةٍ متنوعةٍ مِن المجالاتِ والقطاعات؛ للسماح للذين يعملون في سيناريوهات المستقبل بتخيُّل مستقبل أفضل.
يبحث العلماءُ في كيفيةِ استخدامِ الخيالِ وروايةِ القصص لتخيُّل سيناريوهات مستقبليِّة أكثر أملاً وعدالة؛ قد تؤدي إلى إشعال شرارة عملٍ إيجابي في الوقت الحاضر. ومع ذلك تختلفُ طريقةُ التخيلِ الأدبي للمستقبل عن الأساليب التقليدية في أنَّها لا تركز على النصوص التي تتخيل وتبلور المستقبل في حدِّ ذاته؛ بل تستند إلى السماتِ الشكليةِ والبنيوية للنصوص الأدبية التي تدعم النشاطَ الأساسي المشارك في تخيل عوالمَ بديلةٍ، وتطبيقها بطريقةٍ عملية. وقد تستخدم قوةَ الاستعارة والصور والشخصية والحبْكة للسماح بالإسقاطِ في وقت ومكان بديلين، والتأمل في الواقع المعاصر للقارئ، وبذا يصبح الأدبُ أداةً مستقبلية قويِّة، لأنَّه يشرك القرَّاءَ والمؤلفين في خلقِ عوالمَ مختلفة.
يتردّد صدى المستقبلِ المتخيَّلِ أدبيِّاً في المناهج التي تحقِّق وتدافع عن استخدام الخيال والسرد ورواية القصص كأدواتٍ منهجيةٍ وعمَلية للعمل التعاوني المفتوح نحو صناعة المستقبل، ويشمل هذا المجالُ "الخيالَ التصميمي" أو "التصميم التخميني"، الذي يستخدم السيناريوهات الخياليةَ وتقنياتِ السرد؛ لإنشاءِ نماذجَ أوليةٍ وفتحِ "محادثاتٍ افتراضية حول عوالم مستقبلية محتملة". والواقع هناك مجموعةٌ من المبادراتِ تهدف إلى تعزيز محو أمية المستقبل مِن خلال التعامل مع النصوص الخيالية والتقنيات القائمة على الخيال.
طريقة المستقبل الأدبي
إنَّ تحديدَ التقنياتِ الأدبيةِ والتي نساويها هنا بـ "الأدوات" والطرق التي ينخرط بها القرَّاء في استكشافِ العوالمَ البديلةِ داخل العمل الأدبي يمكن أنْ تتحوَّل إلى صيغٍ قابلةٍ للهضم والتنفيذ، ويمكن أنْ تساعدَ في اتخاذ القراراتِ وتطويرها خارجَ نطاقِ الأدب، وهذا ما يشكِّلُ جوهرَ المستقبل الأدبي.
إنَّ العمل مِن أجل "المستقبل" جهدٌ جماعي أكثر توجُّهاً نحو الممارسة؛ لذا جرى تطويرُ طريقةِ المستقبل الأدبي من لدن ريبيكا براون وإميلي سبيرز في عملهما المشترك في معهد المستقبل الاجتماعي في جامعة لانكستر بالمملكة المتحدة، وتبدأ الطريقةُ بنصوصٍ أساسيةٍ من الأدب العالمي، وهناك نقاشٌ حيويٌّ في الدراساتِ الأدبية حول ما يشكِّله "الأدب العالمي.
كانت الأعمال الأدبية الأساسية بمثابة نقاطٍ مرجعيةٍ في تطوير الخيال الثقافي؛ لقرَّاءٍ متعددين في أوقاتٍ وأماكن مختلفة، على الرغم من أنَّ مثل هذا الانتشارِ ليس بالضرورةِ أن يُعدَ انعكاساً لأيِّ قيمةٍ متأصلة؛ لكنَّه يعني أنَّه يجبُ إعطاءُ الأولوية لهذه الأعمال على غيرها، ويشير إلى أنَّ تأليفها ستكون له قوةٌ أساسيةٌ لأعمالٍ خياليةٌ أخرى تتبعها.
استخدمت طريقة المستقبل الأدبي رواية دون كيشوت لميغيل دي ثيربانتس (1605/ 1615) كنقطةِ انطلاق داخل ورش العمل، وتُعدُّ هذه الروايةُ مناسبةً لمناقشةِ تقنياتِ المستقبل للتنبؤ، وهذه العوامل يمكن تمييزها في بعض الخيارات الأساسية التي ينطوي عليها بناءُ أيِّ سرْدٍ أدبي، وهي تستلزم خلقَ تجربةِ قراءةٍ غامرة، وهذه الروايةُ اختيارٌ مناسبٌ لتوضيح السِمةِ العامة للنصوص الأدبية؛ لأنَّها في الأساس روايةٌ تمخَّضت عن طرقٍ وعواقبَ مختلفة، مع مستوياتٍ فكاهيِّةٍ مِن الاستقراء المنطقي وإعادة المعايرة الحاسمة للسيناريوهات الحقيقية والمرغوبة.
إنَّ التقنياتِ الخاصةَ للتنبؤ والتنبؤ العكسي والتي ترتبط بالاستقراء وإعادة المعايرة الواضحة في السرد تلعب دوراً لدى القارئ، بينما يُتَّبع البطلُ عِبر العالم الذي يسكنه، ويمكن أيضاً النظرُ إليها من منظور كيخوت نفسِه؛ الذي يتخذ قراراتٍ لها عواقبُ طوال العمل، ولا يقتصر عالمُه على التسلسل الزمني الخطِّي التقليدي، بل يمنح القارئ بدلاً من ذلك مساحةً لتخيلِ عوالمَ "اجتماعية" بديلة؛ مع الاحتفاظ بمجموعة من وجهات النظر في الاعتبار.
يعمل دون كيشوت على مستوياتٍ متعددةٍ كسردٍ ميتافيزيقي لتسليطِ الضوءِ على كلِّ التحدياتِ والفرص المترتِّبة على القيام بعمل مستقبلي، ومِن خلال أخذ هذه الروايةِ وتحليلها كنقطةِ بداية فإنَّ ورشة العمل العمَلية التشاركية للمستقبل التي تليها تُظهِر للمشاركين كيفيةَ استخدام مجموعةٍ مِن تقنياتِ المستقبل التي تتوافق مع المُمارسةِ القديمة لكتابة الأدب.
تسمح القصصُ الأدبية للقارئ بالدخول إلى عوالمَ بديلة وبنائها معاً، وهي عوالمُ صمَّمها المؤلفون بعناية، وتدعوهم إلى الانغماس في وقتٍ ومكان قد لا يُشبهان عالَمهم، وتجسِّد قصةُ دون كيشوت عمليةَ بناء العالم، أيْ بناء عوالمَ خياليةٍ لها سماتٌ جغرافية واجتماعية وثقافية متماسكة، مِن خلال تبنِّي التعاون، وضمان نهجٍ تشاركيٍّ للعمل المستقبلي.
وينتقل عنصر بناء العالم في ورشة عمل المستقبل الأدبي من إنشاءِ شخصيةٍ فرديةٍ إلى بناءِ عالمٍ تعاوني، ويُطلب من المشاركين التفكير في مكانِ وجود شخصياتِهم، وماذا يفعلون، وما التفاعلاتُ التي تحدث لهم.
إطار عمل محور التنبؤ بالمستقبل
بهدفِ استخدامِ فكرة بناءِ العالم لإخراج رؤىً مستقبليةٍ محتملةٍ تنتقل الورشةُ بعد ذلك إلى النظر في كيفية عمل هذه العوالم المفترضة مِن الناحية العملية، وهذا يستلزم تحولاً في المواقفِ المختلفةِ تجاه العمل المستقبلي الذي تيسِّره الأدواتُ من "الانفتاح" على التصميم الإبداعي المشترك المتضمن في عمل الشخصية والمطالبة بمجموعة أدواتٍ أكثر انتقاداً وتقييماً. وهذا العنصرُ الأخير مهمٌ لأنَّ الغرضَ الأوسع مِن أسلوب المستقبل الأدبي مساعدةُ الناسِ على التعبير عن كيفية اتخاذ القرارات، وفي النهاية التصرف بناءً عليها. وفي الوقتِ نفسِه يظل الانتقالُ إلى إطار أكثر انتقاداً وتقييماً للأصول الأدبية للنشاط، إذْ يحتاج المؤلفون أيضاً إلى العمل على جعلِ عالَمهم قابلاً للتصديق؛ وفقاً لمعايير خيالِهم.
يسمح دمجُ هذه الأداة التأمليِّة النقدية ضمن نهج المستقبل الأدبي بالاستجواب متعدد الطبقات للمستقبل الذي أنشأه المشاركون، ومِن الأهمية بمكانٍ التركيز على التجربة "الإنسانية" في إطارِ ستة مجالات: التعريف، والربط، والاتصال، والإبداع، والاستهلاك، والتدمير؛ في حين يمكن للأدواتِ السابقة لتطوير الشخصية أنْ تسفرَ بسرعة عن مناقشاتٍ مولِّدة للخبرات.
إنَّ دمجَ هذه التقنية بالمستقبَلات يحوِّل أسلوبَ المستقبلات الأدبية مِن تمرين في الخيال الخالص إلى تمرين يقدِّم رؤىً حول الطبيعةِ الملموسة والعملية للعوالم التي يتمُّ تطويرها، وهذا يجعل هذه العوالم أكثر واقعية، ويجلبها إلى الحياة مِن خلالِ عيونِ شخصيات متعددة.
والسؤال الذي يبرز للمنخرطين في تقنيات المستقبَلات الأدبية عند اكتشاف مزايا وعيوب العوالم التي تم إنشأوها هو: كيفية استخلاص المعنى الملموس من هذا، كيف تنتقل طريقة المستقبَلات الأدبية من خلق مستقبَلات متعددة محتملة وفهم آثارها من وجهات نظر مختلفة إلى اتخاذ القرار في الوقت الحاضر، واعتماداً على الوقت المتبقي المتاح؛ نغير التروس مرة أخرى ونطلب من الناس أنْ يبدؤوا في النظر في الروابط المنطقية مرةً أخرى بالعالم المعاش، ويجري تقديمُ شكلٍ بسيط من التنبؤ بالأحداث مرة أخرى للمشاركين، مع الرجوع عند الضرورة إلى المحاضرة الافتتاحية، ويُطلب منهم استخدام مستقبلِهم المتخيَّل كنقطةِ للعمل إلى الوراء، ويُطلب منهم التفكيرَ في الاتجاه المعاكس، والبدءَ من المستقبل قيد المناقشة في خطواتٍ يجب اتخاذُها "أو تجنبها"؛ لربط هذه الرؤية للمستقبل بالحاضر.
تقييم المستقبل المتخيَّل أدبيِّاً
شملت المجموعاتُ التي شاركت في ورش العملِ الخاصة بمستقبل الأدب أعضاءً مِن وزارة الدفاع في الولايات المتحدة الأمريكية، والذين شاركوا كجزء مِن برنامج اتصالات متخصص، وأولئك الذين يعملون في مجال التنمية الريفية في أيرلندا، سواءٌ من منظورٍ سياسي أو أكاديمي، ومجموعة مِن طلابِ الدراساتِ العليا في كلية دراسات الثقافة والفنون في جامعة تارتو؛ إستونيا، وطلاب جامعيين في جامعة جالواي، أيرلندا، وأعضاء منتدى التفكير في المستقبل، وجرى تشغيل ورش العمل هذه مع مجموعاتٍ من المهنيين المستقبليين.
النتائج
أدى تطبيقُ فكرةِ المستقبل الأدبي إلى بناء ثروةٍ من الاحتمالاتِ المتخيَّلة تراوحت بين مستقبل يتميز بمستوياتٍ عالية من التنظيم، ومستويات متزايدة مِن العزلة؛ إلى مستقبلٍ يقوم فيه المجتمع على التعاون والتطوع المجتمعي والمحلي، وتخيَّلَ المشاركون عوالمَ جرى فيها قلبُ المعايير الحالية وطرق الوجود وتحوُّلُ مصادرِ الثروة والسلطة والمكانة.
كانت هذه العوالم - بغض النظر عن كيفية عملها - مأهولةً بمجموعة متنوعة من الشخصيات، وقدَّمت هذه المستقبَلات المتنوعة وطريقة عملها رؤى قيِّمة، فالتركيز في "المستقبَلات الأدبية" ينصبُّ على العملياتِ التي من خلالها يصل المشاركون إلى العوالمَ التي ينشئونها؛ ومع ذلك يجدر التأكيد على أنَّ طريقة "المستقبلات الأدبية" مكَّنتْ المشاركين من خلق مستقبلاتٍ جذابة كانت غالباً بعيدةً عن أطرهم المرجعية المعتادة.
إنَّ ورش العمل التي تنظِّمها Literary Futures، تعمل على التأكيد على الطبيعة النشطة للتفكير المستقبلي. ومن خلال تمارين التنبؤ بالمستقبل طُلب من المشاركين إقامة اتصال بين خيالاتهم المستقبلية وأيِّ إجراءٍ يمكن اتخاذه في الوقت الحاضر، وأشاروا إلى أنَّ العنصر الخيالي المتأصل في نهج المستقبل الأدبي يسمح بـ "التفكير الخالي مِن القيود"، و"التحرر من الأنماط المعرفية التقليدية"، وشجعت الطبيعة المفتوحة لنهج المستقبل الأدبي المشاركين على "التفكير بشكل أكثر إبداعاً وعدم التقيد بـ ... [آرائهم السابقة]". واتفق 90 بالمئة من المستجيبين على أنَّ نهج المستقبل الأدبي تمكيني، مشيرين إلى أنَّه يوفر فرصةً "للخروج من منطقةِ الراحة الخاصة بك، ودخول طريقة جديدة للتفكير".
قد يكون هذا صعباً لاسيما في البداية؛ إذ وجد بعضُ المشاركين الانخراطَ في الممارسة الإبداعية "مخيفاً في البداية"، وكانت التحفظات الأولية تميل إلى التبدُّد مع تقدم ورشة العمل، حيث لم يشعر المشاركون بالراحة فحسب؛ بل استمتعوا أيضاً بالعملية. وفي الواقع كانت الجوانبُ الصعبة هي الأكثرُ قيمةً وإثارة للاهتمام، وجرى الاعترافُ بأنَّ العملَ مِن خلال هذه الطريقة و"إخراج المشاركين مما اعتادوا عليه" مثمرٌ للغاية.
لقد ثبت أنَّ الانخراط في عمل الشخصيةِ وسيلةٌ مفيدةٌ للمشاركين؛ ليس فقط "لرؤية العالم بشكل مختلف؛ ولكن أيضاً لوضع أنفسِهم في حياةِ الآخرين، ومحاولة تخيُّلِ ما يحرِّك حياتهم".
إنَّ استكشاف المستقبل الذي تم بناؤه في هذه الورش شجَّع الحوارَ والتفاوضَ حول المستقبل المختلف الذي تم إنشاؤه، وقد لاحظ المشاركون أنَّ تطويرَ الشخصية على وجهِ الخصوص يمكّنهم من وضع أنفسِهم في مكان الآخر"، إذْ أعرب أحدُ المشاركين عن دهشتِه مِن دافعهم للدفاعِ نيابة عن الشخصية التي ابتكروها؛ معترفاً بأنه مِن غير المرجَّح أنْ يحبوا أو يدعموا مثل هذا الشخص "في الحياة الواقعية"، ورأى 82 بالمئة من المستجيبين أنَّ إنشاء شخصيتهم الخيالية الخاصة بهم داخل الورشة سيشجعهم -عند القيام بعملهم- على التفكير أكثر في وجهات نظر الآخرين.
إسهامات أسلوب المستقبل الأدبي
إنَّ هذا الجهدَ يطلق العنانَ لقوةِ الخيال في خدمة مستقبل متخيَّلٍ مختلف جذرياً وغير متوقَّع، وهذا ما يجعل نهج "المستقبل الأدبي أداةَ تخطيط عالية، وإنْ كانت غير عادية، لاسيما في السياقات التي تحتاج إلى التعامل مع أحداثِ البجعة السوداء*، أيْ الأحداث المفاجئة؛ وغير المتوقعة، (حول استخدام أساليبَ الكتابة الإبداعية للتعامل مع أحداث البجعة السوداء.
إنَّ التركيزَ على خلق الشخصيةِ يبني منظوراً يؤدي إلى زيادةِ التعاطف "الإدراكي" من خلال توفير إمكانية الوصول إلى ما يفكر فيه ويشعر به شخصٌ آخر (خيالي). ويُفهم التعاطف هنا على أنه القدرةُ على تقريب "تجربة شخص آخر من خلال تخيل نفسك في موقفه.
ويركز التعاطف المعرفي على فهم "محتويات عقل شخص آخر". وتحدد الأبحاث الحديثة حول التعاطف مع هذا الأمر على أنه شيء "حيوي ونشط؛ ويعتمد على عواملَ أخرى؛ بما في ذلك أحداث الحياة والثقافة وسياقات المجتمع".
من خلال تشجيع منظور معيَّنٍ فيما يتعلق بمجموعة واسعة من الشخصيات المحتملة، يسلط أدبُ المستقبل Literary Futures الضوء على التعاطف بوصفه مهارةً يمكن تنشيطها، والتأثير عليها من خلال العمليات التجريبية والتعلمية، وإثارة الاستجابة التعاطفية، التي تصبح بدورها حجرَ الزاوية في التعامل مع المستقبل والتخطيط له بطريقة أكثر تركيزاً على الإنسان.
إنَّ التركيزَ على "عناصر الاهتمام الإنساني" يختلف بشكلٍ ملحوظٍ عن الأساليب التي تعمل بمعاييرَ أكثر تجريداً، مثل الحوافز والدوافع، والنتيجة - وفقاً للمشاركين - هي "إحساسٌ أكثر إدراكاً لِما قد يبدو عليه المستقبل"، مما يؤسس عملَ المستقبل على "الوعي بأنَّ الكثيرَ مما نقوم به - لاسيما إذا كنا نتحدَّث عن السياسة - أو نقدم مقترحاتٍ للمستقبل تؤثر على الأفراد والبشر، وبالتالي، يمكن لـ Literary Futures تطوير أجنداتٍ سياسية دقيقة ومبتكرة، كما لاحظ أحدُ المشاركين، والتي تأخذ في الاعتبار التأثيرات البشرية؛ فضلاً عن اتجاهاتٍ ونتائج السياسة المتعددة. وتدعو هذه الملاحظات إلى المشاركة الملموسة التي تبتعد عن الأساليب التكنوقراطية، وتتجه نحو جعل المستقبل مرئياً وملموساً وتفاعلياً وقابلاً للاستكشاف. وينصبُّ التركيزُ على "البشر والأنظمة المستقبلية في سياقهم العلائقي؛ مع التركيز الواجب على الخبرة الإنسانية والمعنى المستمَد من هذه التجربة".
تطوير نهج المستقبل الأدبي
هناك عدد من السبل لتطوير نهج المستقبل الأدبي من خلالِ توسيع نطاق تقديم ورش العمل لمجموعة من المشاركين خارج سياقات الجامعات والحكومات، ومن خلال توسيع تصميم البحث سيكون من الممكن مقارنةُ شرائح البيانات عِبر المجموعات والتركيبة السكانية، وقد تشمل المجموعاتُ الإضافية المزيدَ من المهنيين الذين يعملون في موضوعِ المستقبل الأدبي (على سبيل المثال، قطاع التعليم) أو المشاركين الذين لديهم اهتمام أقل بالمستقبل المفضَّل، ومن شأن هذا النهج توفير الكثير مِن الرؤى حول نقاطِ القوةِ؛ بما في ذلك الفوائد التي قد يقدمها لمجموعاتٍ مختلفة؛ وفي أيِّ سياقات يمكن أنْ تكون أكثر فائدة.
إنَّ توسيعَ سياقِ المجموعة مِن شأنه الإسهام في سدِّ فجواتِ البحث الذي يتم إجراؤه، مما يسمح للباحثين بالانخراط بشكلٍ أكثر صراحة في حلِّ مَسألةِ مَن لديه حقُّ الوصول إلى أسلوب المستقبل الأدبي؛ ومَن يمكنه المشاركةَ فيه في المقام الأول، وهذا يُفضي إلى مزيدٍ من المعرفة حول أساليب المشاركة في المستقبل بشكلٍ عام.
ويمكن أنْ يصاحبَ توسيعَ المشاركةِ دمجُ تقنيات أخرى في المستقبل؛ جنباً إلى جنب مع أنشطةٍ أخرى في التفكير بالمستقبل، وهذا من شأنه السماحَ باستكشاف: كيف يمكن للمستقبل الأدبي أنْ يكمِلَ الأساليب الأخرى في التفكير بالمستقبل؛ لاسيما طرق العمل العملية والتطبيقية الأخرى.
إنَّ إعطاء المشاركين المزيد من الوقت لتطوير شخصياتهم ومستقبلهم المتخيَّل؛ والجمع بين هذه التقنيات وتقنيات المستقبل الإضافية مِن شأنه أنْ يثمرَ عملاً أكثر عمقاً. ويمكن لهذا النهج الموسع أنْ يشتملَ على فرصٍ للمشاركين في تطبيقِ التعليمات على سياقات العالم الحقيقي.
إنَّ هذا العمل المتجذِّرَ في أعمال وأنواع إضافية من الأدبِ والفن من شأنه صقلُ فهْمِ الدور الذي يمكن أنْ تلعبه هذه الأنواع والوسائط المختلفة في التفكير بالمستقبل. وهذا يفضي إلى السماحُ للباحثين بفحص ما إذا كانت نتائجُ هذه الدراسة والادعاءاتُ المقدمةُ عن فوائد الخيال قابلة للإعمام أمْ لا، وما إذا كانت الأعمال المختلفة للأدب العالمي مِن شأنها أنْ تسفرَ عن مجموعةٍ مختلفةٍ أو إضافية من تقنياتِ المستقبل الأدبي.
إنَّ تجاوز نوعِ الرواية لتشمل أنماطاً أخرى مِن الكتابة مثلِ الشعر والمسرحيات من شأنه أنْ يمكِّننا من التعامل مع مسألةِ ما إذا كانت تقنياتُ المستقبل الأدبي المختلفةُ والمتميزة تنشأ من هذه الأنواع. وهذا يُلقي الضوءَ على قضية ما إذا كانت فوائد التعامل مع هذه الأنواع بطريقة عملية مماثلة أو مختلفة عن تلك التي تقدِّمها الروايات.
إنَّ البحوثَ المستقبلية قد تتعامل أيضاً مع الوسائط غير الأدبية؛ إذ يمكن لهذه الأساليب أنْ تعالج كيف وإلى أيِّ مدى تمكِّن هذه الأشكال الفنيِّة مِن تصوراتٍ بديلةٍ ومتميزة للمستقبل.
ومِن خلال توسيع نهجِ العمل مع مجموعات، وعِبر توسيع تصاميم البحثِ يمكن أيضاً معالجة أسئلة إمكانية التكرار، وهذا يشمل تحديدَ المجموعات والأفراد الذين قد يكونون في وضعٍ جيدٍ؛ لإدارةِ هذه الورش، ونوع التدريب الذي قد يحتاجون إليه، وكيف يمكن تغيير إطار العمل بشكل مناسب لمجموعات أخرى مختلفة.
*نظرية البجعة السوداء (Black swan theory) نظرية تُشير إلى صعوبة التنبؤ بالأحداث المفاجئة. وتقوم على فكرةِ أنَّ البجعَ كلُّه أبيض، أمَّا وجود البجع الأسود فنادر. كان ذلك قبل اكتشاف البجع الأسود في استراليا. وتنطبقُ هذه النظرية على الأحداث التي يكون احتمال وقوعها غير وارد. ومعظم الناس لم يروا بجعاً أسودَ، لذا فهم يعتقدون بعدم وجوده، لأنَّ عقولهم اعتادت على التفكير في نسقٍ محدَّدٍ دون سواه.