سالم شدهان
للمكان في السينما قيمٌ لا يمكن احصاؤها في مقال قصير، لأنها ببساطة يمكنها أن تكشف حتى عن كثير من المضمرات طوال زمن جريان أحداث الفيلم، بل يتجاوز ذلك الى مديات فكرية وأيديولوجية، فضلا عن المديات الدرامية التي يتوهم البعض بأنها كل ما يريد الفيلم تقديمه، لا بل علينا أن نؤكد بأن متن النص ليس الا وسيلة، أو تقنية فنية يراد منها أن يتم التواصل، ما بين المتلقي وبين الموضوع كقيمة إخبارية بالدرجة الأولى، لكنها تكتسب ضرورات ابداعية وقيمية وفلسفية، تسهم فيها جميع المديات الأخرى، ضمن بنية تشكيلية يؤسس لها الذهن المتوقد للمخرج صانع العمل.
كذلك فان الفيلم يمكنه أن يعلن من خلال المكان عن البناء الأرسطي للحكاية ( البداية والوسط والنهاية)، ويتم ذلك أما من خلال دخول أو استعادة دخول الشخصية الرئيسية للموضوع بدأ من عملية التمهيد لذلك، وهذا ما تجسّد في فيلم (ظلال من رماد) حينما جاءت المرأة العجوز برفقة حفيدتها على عربة يجرّها حصان في شارع فارغ تماما، بالرغم من ضيق حجوم اللقطات الأولى، لكن المتلقي يستطيع تتبع هذه اللقطات القليلة، كي ندخل ضمن الجو العام المحفوف بالحذر، كونه فرّغ من ساكنيه لأسباب شتى ولا توجد فيه حياة، بل هناك منظومة من الذكريات تبدأ في حوار الجدّة للحفيدة قبل أن يبدأ الجانب المرئي للفيلم، حينما نسمع الجدة وهي تحدّث حفيدتها: "جدّج كان يكول الرجعه للبيت، هي من اجمل لحظه باليوم"، لتبدأ أحداث الفيلم بلقطة كبيرة لوجه الجدّة مولّدة صدمة تحذيرية، التي تتوسّع فنرى الجدّة برفقة حفيدتها، راكبة في عربة يجرّها حصان في بيئة فارغة الاّ منهن وسائق العربة، وهنا نرى كيف كشف الفيلم عن الثيمة والمكان والآلفة والانتماء والأصالة، لكن كل شيء كان ينبأ بالخطر، وبأن هناك حدثا جللا قد أدّى الى هذه الغربة، يتجلّى ذلك من خلال غياب الحياة ضمن حدود هذا المكان الكبير، وضمن حدود البيت (المكان)، الذي أسّس الى بناء علاقات تبادلية وظيفية، ابطالها البناء التشكيلي لحدود المكان وساكنيه، الذين جاؤوا توّا ليستعيدوا ذكريات الجد، كلا المنظومتين تشتغلان ضمن مفهوم الأبعاد المادية التي تتمثل في شكل المكان المعماري وموقعه الجغرافي، والمعالم المعمارية التي سنكتشف بأنها صفات مشتركة ما بين الشخصية القاطنة في هذا المكان، وما بين المكان الغني الذي لا يتوانى أن يكون هو بطل الفيلم، وما الأحداث فيه، الّا خيالات تلتقطها الكاميرا لتقود الخيط الحكائي، الذي لا يختلف في حقيقته عن أغلب الحكايات المتداولة في أفلام ومسلسلات كثيرة، إلا أن الاختلاف يكمن في كيفية توظيف هذا المكان، الذي لا يشغله أحد، وهو ليس الّا قبورا لذكريات الفقراء وأطفالهم الذين يتباهون في صدق جمالهم، وهذا ما شاهدناه في اللقطة التي تنظر فيها البنت الى نفسها في المرآة وتسأل جدتها : (بيبي طالعه حلوه آني؟ )
وبالرغم من إهمال المخرج لهذا الفعل المهم وعدم شموله بلقطات خاصة، إلا أن الثيمة وصلت ملفوظة بجملة كلامية، وليست لقطات للبنت وهي تزيِّن المرآة بجمالها، وانتهى التمهيد قبل هذا حينما دخلت العجوز برفقة حفيدتها الى البيت، ثم تبارت اللقطات فيما بينها، كي تبني المكان واستغلال جميع تفاصيله المغرقة بالمفاهيم التشكيلية، التي تسهم في الإعلان عن من هم الذين يدافعون عن الوطن, وما هي القيم الاعتبارية التي يجاهدون من اجلها ويستشهدون، فالوطن يبنى من خلال هؤلاء القلّة القليلة، وهذا ما تجسّد في حوار الابن الذي حضر من الخيال إلى أمه :"من سيدافع عن هذا الوطن أن لم ندافع عنه نحن" وفي الحقيقة من يهمّهم الوطن هم هؤلاء اصحاب القيم المتمسّكين بجماليات المكان، الذين لا تفرّق بينهم سوى الشبابيك، الذي كان لوجودها الاثر الفعّال فلسفيا وتشكيليا، إذ بقي الشبّاك هو الوسيلة، التي يمكنها أن تصف الصعوبة والجهد الكبير، كي يعيشوا إضافة إلى أن الأكل ليس غاية كبيرة ، إنما هو وسيلة كي لا يموت الإنسان جوعا، كما قالت الفتاة لجدتها : "راح تموت من الجوع".
تسيدت مرحلة الوسط الارسطية الموقف هنا، بانتظار الاتجاه نحو النهاية، التي أعدها نهاية مكانية في خدمة الحكاية، وليس نهاية حكائية والمكان فيها وسيلة عرض وكشف وتركيز، فالنهاية تجسّدت من خلال حركة الكاميرا (درون)، التي كشفت عن المكان الجزئي من داخل البيت، ثم خرجت بحركة باهرة من خلال الفتحة، التي توسّطت باحة البيت باتجاه السماء، لتكشف عن اندماج هذا الدار الاثير إلى قلوب أبطاله في المكان العام للمدينة، أو الحي الذي لم نشاهد فيه سوى احدهم، وهو على درّاجة هوائية يجوب المكان، والدرّاجة هذه وجدناها في إحدى زوايا البيت، وهي محطّمة، اذ لم تبق لها ضرورة، لا هي ولا عربة الطفل القديمة المرمية في ساحة البيت، إضافة إلى المدرج الاخضر وباقة الورد، التي شاهدناها خارج التركيز البصري (أوت فوكس) كخلفية ايحائية دلالية للشهيد الحي في هذا
الفيلم.
من هنا نجد أن المكان هو من كان يمتلك قيما تعبيرية، لم تغلّف الموضوع المراد عرضه فقط، بل كانت هي الموضوع والحكاية بشخوصها وتقنيات الاشتغال المرئي، ليست سوى وسائل لشخصية البطل المكان، التي كانت تشكيلية بصرية مفاهيمية ينبع الشعور والثيمة منها، وينبع المفهوم والفكرة والغاية وكل ما يخص القيم الاعتبارية والسايكولوجية والدرامية منها، وما السيناريو المكتوب الّا غلاف لمحتوى أكبر وأهم تسيّده المخرج حينما شعر بأن كل شيء موجود ضمنا في هذا المكان الذي يقترب من
الحقيقة.