صراع الإنسان

ثقافة 2024/11/26
...

 د.جاسم حسين الخالدي

تُعدُّ مجموعة "حالة طارئة" للكاتب عباس خضير الويس، واحدة من أبرز الأعمال الأدبيَّة التي تناولت تحديات الحياة الإنسانيَّة في ظل الظروف الصعبة. تضم المجموعة سبع قصص قصيرة: "حالة طارئة، توبة، صحوة، مقهى وهيب، طيور مهاجرة، السماء السابعة، وشاح مريم".
 تتسم قصص الويس بالرمزيَّة العميقة والأسلوب الواقعي الذي يعبر عن حالات طارئة ومفاجئة تسلط الضوء على المعاناة الإنسانيَّة والعزلة الاجتماعية في ظل واقع مأساوي.
في قصة "حالة طارئة"، يتناول الويس معاناة عباس، العامل البسيط، في صراعه لانقاذ ابنه المريض "أكرم" المولود بقلب مثقوب، وسط عجز العائلة وفقدان الأمل نتيجة الظروف القاسية.
تصوّر القصة، أيضاً، الإهمال الذي تواجهه الشخصيات من السلطة والمجتمع، إذ تُترك مشكلات الناس من دون عناية.
يمثل "عباس" رمزاً للتحدي على الرغم من عوزه المادي والمعنوي؛ فهو يرفض الاستسلام لمصير أبنه، ويبذل قصارى جهده لانقاذه، في صورة تظهر رفض الإنسان للهزيمة أمام الظروف الصعبة. وبذلك ترسم القصة صورة عميقة لصراع الإنسان أمام قدره، وتجسّد المعاناة البشريّة بين الأمل واليأس، والقوة والعجز، والحياة والموت.
أما قصة "توبة" فتسلط الضوء على رحلة البطل للتطهر من الذنوب، مع رمز النهر بوصفه وسيلة للخلاص، فيما تتقبل الزوجة عودته بروح متسامحة. أمَّا لحظة التحوّل فتتمثل في صوت الأذان، إذ تعيد الشخصيّة التمسك بالقيم التي أهملتها. فالقصة تعبر عن رحلة التوبة والعودة إلى العائلة بروح جديدة، وتطرح مفهوم الندم باباً للتوبة والعودة إلى الطريق المستقيم.
وتتناول قصة "صحوة" صراع الشخصيَّة الرئيسة التي غيّب السارد اسمها بين الرغبة في الهرب والواجب تجاه الأسرة، تتكشف الرموز في القصة لتعبر عن صراعها الداخلي وسعيها للعودة إلى الجذور. تمثل الركبتان المتخاذلتان ضعف الشخصية أمام التزاماتها وماضيها، وترمز إلى خوفها وعجزها المتزايد عند اقترابها من منزل الأم، بينما يظهر الكلب رمزاً للخوف والعقبات النفسيَّة التي تواجهه، مجسداً القلق الذي يلاحقه من دون مواجهة حاسمة.
وتجسد قصة "الغرفة المضاءة" وجود الأم وحنانها الذي يجلب السلام، ودموعها تعبّر عن حزن عميق ورغبة ضمنية في عودة الابن إلى حضن الأسرة. وأخيراً يمثل المطر رمزًا للتجدد الداخلي، موازياً لتحول نفسي تعيشه الشخصيَّة.
بينما تأتي قصة "مقهى وهيب" برمزيّة المقهى أمام المقبرة لتعبر عن علاقة الأحياء بالموتى والبحث عن السلام الداخلي؛ إذ تمثل المقبرة نهاية الحياة وحافظة الأسرار، بينما المقهى مساحة يلتقي فيها الأحياء مع ذكريات رحيل أحبائهم. أمَّا وجود الزوجة في المقبرة، فهي ملاذ يعيد إليها ذكرى الأحبة، ويمنحها الشعور بالمسؤولية والرعاية تجاه موتاها، حتى بعد وفاتهم. وتجسّد "مقهى وهيب" بأسلوب رمزي واقعي رحلة الإنسان مع الفقدان والألم، وتفتح للقارئ أبواب التأمل في معاني الحياة والموت، والعلاقات الإنسانية التي تربط الأحياء بالأموات وذكراهم.
أما في قصة "طيور مهاجرة"، فقد قدم الويس صورة أخرى عن حالة التشظي النفسي والانقسام الداخلي، حيث تتجسد الرمزيّة في الطيور التي تهاجر بحثًا عن مكان آمن، مثلما يبحث الشخص عن مكان للراحة والسكينة. هنا، تصبح الطيور بمثابة استعارة عن الإنسان المهاجر الذي يترك وطنه وذكرياته وراءه بحثًا عن فرص جديدة أو هروبًا من الخوف. هذه الطيور لا تجد دومًا مكانًا آمنًا، وهو ما يعكس تجربة اللجوء أو الهجرة القسريَّة التي يعاني منها الكثير من الناس في ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية المربكة.
وتصور قصة "السماء السابعة" حباً مدمراً بين "جلال ولميعة"، إذ يواجه حبهما العنف والحرب. ولذلك تجسد الرموز مثل "الشجرة" و"المصباح" مفاهيم الأمل والحياة، لكنها تفقد معناها أمام دمار الحرب، ما يصوّر التوتر العاطفي للشخصيات.
تستعمل القصة الرمزيَّة بشكل مبتكر حيث تمثل السماء السابعة رمزاً للرفعة الروحيّة، وحلمًا بالتحليق بعيدًا عن هموم الحياة اليومية. يخلق الويس من خلال هذا الرمز حالة من السمو الروحي بين الحبيبين، إذ يظهر الحب بوصفها ملاذا آمناً من الواقع القاسي. ومع ذلك، تظل السماء السابعة بعيدة، كما تبقى الحلول المريحة بعيدة المنال، مما يعكس المسافة الفاصلة بين الرغبات والواقع الذي تعيشه
الشخصيات.
في قصة "وشاح مريم"، يعبر السارد عن حب عميق مليء بالغموض والشجن بين رجل وامرأة، تربطهما علاقة متشابكة عبر الهاتف، إذ يلتقيان بشكل غير مباشر ويفصحان عن أحزان مكنونة من غير أن تتقاطع حياتهما في الواقع. يظهر القاص رمزيّة المقبرة بوصفها مساحة مشتركة يلتقي فيها الطرفان، تتخللها التأملات حول الفقد والمشاعر المكبوتة.
يتجلى ارتباطهما بالهاتف بوصفه وسيلة للتواصل، إذ تتدفق عواطفهما بحرارة، وتتشابك في لحظات من الحزن والشوق. على الرغم من بساطة وسيلة الاتصال، فإنَّ العلاقة المعقدة تأخذ طابعًا روحانيًا، يتخلله الكثير من الأسئلة الوجودية والتساؤلات عن الزمن الضائع.
يبرز مشهد المقبرة في النهاية رمزاً قويّاً للمصير الحتمي الذي يجمعهما. عندما يذهب الرجل إلى المقبرة، يحاول أن يجد إجابة شافية على ما يربطه بمريم، ليكتشف في النهاية أنّه مجرد ضيف عابر في حياة مليئة بأطياف الأحبة الراحلين.
يستحضر السارد أجواء شجن ومأساة، من خلال الاستعارات والصور الرمزية، مثل "وشاح مريم الأسود" و"الصليب"، التي توحي بأنَّ قصّة الحب لم تكن مجرد علاقة عابرة، بل كانت تجربة وجودية تلامس العاطفة بعمق، وتلامس الروح بما تحمله من ألم
وحنين.
تتجلّى في المجموعة رموز متعددة تُعبر عن التحدي والصراع مع الظروف الصعبة والأمل الهش الذي يتخلل قصص الويس، لتقدم تجربة إنسانيَّة عميقة تصوّر عمق معاناة الفرد العراقي في مواجهة الأزمات المتلاحقة.
تستحق مجموعة "حالة طارئة" أن تُقرأ بعناية، ليس لفهم القصص والحكايات التي تضمها فقط، بل لأنَّها تفتح أبوابًا لفهم أعمق للإنسان في مواجهة الأزمات، وللشخصيَّة العراقيّة التي تحمل تاريخًا طويلًا من التضحيات والمقاومة. في هذا العمل الأدبي، تمكن الويس من أن يُبقي قارئه على تواصل دائم مع الواقع عبر لغة رمزيَّة وثيمة
عميقة.