مبارك حسني
أفرز الأدب العالمي أسماءً لمعتْ ضمن زمرة من وُصفوا لاحقاً بالمنبوذين أو الملاعين. إما لسلوكٍ غريبٍ عُرفوا به، أو لجرأة في الإبداع أبدوها تُخالف السائد والمعروف، أو لاختراق قاموا به لكل التوافقات المجتمعيَّة المُتبعة. لكنْ في جميع الأحوال، هم يلتقون في كون الكتابة تملَّكتهم بقوة، فأرسوها بالتالي كشيءٍ فرديٍ ينطلقُ من ذواتهم كمالكين لها، وتمتحُّ قوة إجرائها، وعنف إيحائها، وصدى تجددها الدائم لاختراق حواجز العالم، والتواصل الحميمي مع الآخر العصي في كل الحالات من دون روابط مسالمة أو تواطؤات مسلَّمة. وغالباً ما يكون الثمن لأداء ضريبة هذا النوع من الكتابة هو الذات نفسها، سجناً، تعذيباً أو موتاً.
خيال يصنع الواقع
جيرار دو نيرفال (1808 - 1855)، الكاتب الفرنسي المنتمي لقرن الأدب الذهبي الذي هو القرن التاسع عشر، أحد هؤلاء الملاعين الكبار اللامعين. كانت الكتابةُ لديه كما عند هؤلاء القمم الإبداعيَّة التي شاركته القدَر الحتمي ذاته لصيقةٌ بالذات لا تنفصل عنها بتاتاً. في حالته عرفتْ ذاته اختباراً قصياً شقياً جزَّأها إلى نصفين متداخلين ومنفصلين في آنٍ واحد. لأنَّه عاش تجربة المرور إلى الجنون وفصّلها في الكتابة.
الجنون حيث تمَّ لديه التماهي بين العيش في حالة الحلم والعيش في حالة الواقع. أو بتعبيره الخاص العيش في حالة "بين اليقظة والنوم" حيث ينعدم الإحساس بتوالي الزمن، وحيث الاتصال المكاني لا يعترضه أي عائق "عادي"، وحيث يمكن أنْ يحضر الأشخاص الغائبون، وتتجلى الأمكنة، أيَّة أمكنة عند الطلب. وهذا مع كامل الإحساس بالتواجد في زمنٍ واقعي.
ولقد حكى هذه التجربة الفريدة من نوعها بوعيٍ غير واعٍ - إنْ جاز التعبير - في روايته القصيرة الرائعة "أوريليا" وبدقة لا متناهية. وتدلُّ على ذلك بداية هذا العمل الرائق والمرعب حيث يقول: "الحلم حياةٌ ثانية. وليس بدون رعشة استطعتُ اختراق هذه الأبواب العاجيَّة أو القرينة التي تفصلنا عن العالم اللامرئي. إنَّ اللحظات الأولى للنوم هي صورة للموت (...) ولا نستطيع بدقة تحديد اللحظة التي تبدأ فيها الأنا بإتمام عمل الوجود "الحياة" في هيئة شكل آخر".
تبدو هاته الكلمات الآن لدارسي الأدب وللعشاق مفتاحاً لعالمٍ حميمي خاصٍّ لم يُقدَّر للأدب أنْ يجاريه من قبل أو يدلف إليه. وهكذا صار مُتاحاً بفضل دونيرفال وجنونه أنْ نقرأ نصَّاً أدبياً من الروائع كُتب تحت تأثير الجنون. جنون يملي كتابته وكلماته بتقطُّعٍ يترادف مع لحظات الوضوح والشعور "العادي". تصير الكتابة آنذاك توازناً بين الانسياب الخارق للبوح، وضغط الكلمات الشعريَّة المتفردة التي تتوق إلى الانفلات. الشيء الذي يجعل المكتوب يجاور حبكته. يقول جان جيرودو الكاتب الفرنسي المعروف في هذا الشأن: "إنَّ أوريليا هي قمة دروس الشعر".
حكاية أوريليا
ولنص "أوريليا" حكاية أغرب كأنَّما لتعلن عن غرابتها. فلقد وُجد أوراقاً مخطوطةً في ملابس الشاعر بعد موته عندما جاء أصدقاؤه للتحقق من جثته. كان نصَّاً تائهاً منسياً مُضمخاً بروح القسوة دبَّجه الكاتب في فترة عصيبة من المرض والفوران الإبداعي المحموم.
وأوريليا هذه اسم امرأة أحبّها الشاعر ثم افتقدها، وبعد ذلك التقى بها مراراً. إلا أنه في الأخير لا يمكن التأكد من حقيقة هذه اللقاءات. فلم يعد بالإمكان التحقق من حدوثها فعلاً، أو هل تمَّ تخيلها من طرفه.
ما يوجد بالفعل - وبشكلٍ أكيدٍ - هو النص فقط، أي الكتابة، فهي تتدخل هنا لتُنظِّم ما قبل النصّ وما بعده، وتسمو به إلى مدارج عليا محتفظةً بكل السرّ الذي جعله موجوداً ومقروءاً الآن. وبالتالي لم يعد مجدياً معرفة الأصل الحقيقي لما كُتِبَ. والجميل أنَّ ما حام حول ظروف النص يترك في ذهن القارئ أثراً هفيفاً من الحيرة ومن الإعجاب ومن التوتر أيضاً. لأنَّها في كُنهها هبوطٌ إلى الجحيم وجد تعبيره كتابةً في أواخر حياة الشاعر وفي ذروة أزمة الجنون وفترات العلاج، حيث تتكاثف الرؤى والأخيلة الغريبة بتسارعٍ وإيقاعٍ لا يمكن معرفتهما إلا بالمعايشة. وقد كتب لحظتها لطبيبه: "أرسل لك صفحات تُضاف للأخريات التي أعطيتك بالأمس. سأستمر في هذه السلسلة من الأحلام إذا شئت". "أوريليا" أحلام نظمها القلم بإيقاعٍ خاص، وتعاقدُ فقراتٍ باهر، رغم لاواقعيَّة الأحداث، ورغم انهزام صاحبها أمام العيش العادي.
أثر فاوست، أثر العرب
يجب القول بأنَّه وقبل أنْ يصلَ جيرار دونيرفال إلى فترة كتابة هذه القصة الفريدة، كان اجتاز مراحل حياةٍ متوترةٍ. وسواء عدّت هذه الحياةُ خائبةً، أو العكس حين لا يمكن اعتبار سوى ما آلت إليه إبداعياً، فقد تضمنت في كل محطة منها علامةً موحية تُفضي إلى المصير المأساوي الأخير. فليس غريباً بالقياس إلى ذلك أنْ يكون من أوائل من ترجموا رواية الألماني "غوته" العظيمة "فاوست"، وتقديمها إلى القارئ الفرنسي آنذاك. ألم يبع البطلُ العالمُ "فاوست" روحه للشيطان ليستكمل منيته الدفينة الأخيرة بعد أنْ حصل على كل ما كان يتمناه. ولقد حقق الترجمة وعمره حينها ثماني عشرة سنة فقط.
وبعد ذلك حدث أنْ عشق ممثلة سيلاحقها زمناً برسائله المشحونة الملتهبة أحياناً، والخانعة المؤنبة أحياناً أخرى، ومكتوبة بأسلوبٍ ومضامين غير عاديَّة لا يمكن إلا أنْ تزعزع قارئتها المحدودة المعرفة.
كما أنه سيقوم بزيارة مهمَّة ستشكل فتحاً آخر في عالمه المتوتر أصلاً. إنَّها زيارته للشرق العربي، لمصر وفلسطين والقسطنطينيَّة تحديداً، والتي ستغير حياته في العمق كما لو اكتشف السرَّ الأول.
هذا فضلاً عن قراءاته المتنوعة والكثيرة في الرحلات والتاريخ والديانات والفلكيات وتفاسير التوراة. قراءات تتميز بموضوعاتها البعيدة عن حاضره ومعيشه".. ما قد يجعل حكيماً يصاب بالجنون. أتمنى أنْ أجدَ فيها ما يجعل مجنوناً حكيماً" كما سبق أنْ قال هو بنفسه.
من هنا بدأ، ومن هذه السفريات في الأرض، وفي الكتب، وفي العواطف، امتح دو نيرفال روائعه وفي قمتها "أوريليا" المحكمة الكتابة والجنون، والمكتوبة لامرأة هي كل النساء اللائي تعرف عليهن، واللائي قرأ عنهنَّ، واللائي سيجعلن من حياته ظلاً طويلاً من الأيام والليالي، من الأوهام والخيالات التي ليس في مقدور إنسان سوِيّ أنْ يتحملها من دون ضريبة قاسية.
توفي جيرار دو نيرفال قبل عمره الخمسين. وُجد ذات صباح ثلجي صقيعي مشنوقاً أمام باب منزله. شنق نفسه بنفسه ملقياً على حياته بهذه النهاية المأساويَّة صفحةً من السر الأكبر لا يفتأ "النرفاليون" يفكون طلاسمها المستغلقة من خلال الأوراق التي ترك.
"نجمتي الوحيدة ماتت/ وفرَسي المزوق يحمل شمس الحزن السوداء".