فلسفة الترند Trend philosophy دوافع الشهرة بتقنيات التشهير

ثقافة 2024/11/27
...

عبد الغفار العطوي

(Trend) مصطلح اقتحم عالمنا الافتراضي في فضاءات منصات التواصل الاجتماعي والعوالم الإلكترونيَّة الإعلاميَّة والثقافيَّة منذ وقتٍ قريبٍ جداً. ويوضح كتاب "الطوفان الرقمي: كيف يؤثر على حياتنا وحريتنا وسعادتنا؟" لهال ايلسون وهاري لويس وكين ليدين، كيف غيَّرَ من وضعنا وحياتنا اليوميَّة الروتينيَّة الهادئة باتجاه صخبٍ جعلها أكثر وقعاً وأسرع تطوراً - أي بإيقاع يتناغم مع تحولات العصر- الأمر الذي خلق فرصاً جيدة لتكوين المجتمعات المغلقة بأنماطٍ معينة من التشارك والتعاون، والذي عُرِفَ بالجمهور كما في كتاب "الجمهور.. التسويق في عالم رقمي" لجيفري كيه رورز.
وبموجب فلسفة الجمهور الرقمي، أسهم مجتمع المعرفة في محو كل واقعٍ ماديٍ، وإبداله بفضاءٍ مفترضٍ عبر مراهانات الجمهور المتخصص على وفق رغبات، كما بيَّنها كتاب "الإنسان الرقمي والحضارة القادمة" لدانيال كوهين.
لهذا نحن نعرّفُ (الترند) بأنَّه الحدث الذي تحظى موضوعاته باهتمامٍ كبيرٍ من قبل الناس، فهو لافتٌ للنظر وسريعُ التحقق والانتشار والاستجابة من قبل الجماهير، ويسري كالنار في الهشيم عبر مدة زمنيَّة محددة ومعينة.
وفي الآونة الأخيرة صار (الترند) يشغل (السوشيال ميديا) بشكلٍ دائمٍ، وملفتٍ للعيان، وهو أيضاً يمثل اتجاهاً معيناً في تحرك الأسعار من حيث الارتفاع والهبوط، كما ويمكن تقييمه في سلوكه المتذبذب عبر إجراء التحليل الفني. وتعدُّ العمليَّة التي تجري فيها تقييم (الترند) بالمزايدة على دوافع الشهرة التي يدفع بها الجمهور الرقمي نحو الاحتكام إلى شيوعه كدالٍ على انتشار الشيء المطلوب وصولاً نحو ذروة (الترند). وهذا الأسلوب المبني على فكرة الإشهار هو ما يجعل لهذا الفعل فلسفة تبرر: لمَ يميل الجمهور الرقمي إلى المزاحمة في عمليَّة التسوق والتسويق؟
في كتاب "فلسفة الأشياء الصغيرة" لفتحي المسكيني، نجد كيف تحولت الفلسفة من الخوض في المشكلات الفلسفيَّة الكبيرة مثل "الوجود والعالم" نحو مشكلاتٍ صغيرة استدعاها العصر، مثل "العيش وسط المشكلات اليوميَّة الراهنة في مزاحمات ثقافيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة" بعيدة عن كبرى القضايا الوجوديَّة التي لم تعد تشغل الإنسان في عالمه اليومي الرقمي.
وفلسفة (الترند) التي توحي لنا بأنها عبارة عن مقايضة لجملة من دوافع الشهرة التي تطلب إظهارها عبر تقنيات تشهير تؤدي لنوعٍ من الفضائحيَّة المقبولة في عرف الجمهور الرقمي الذي عادة ما يتبنى أخلاقيات عولمة ذرائعيَّة تفرض نمطاً من المقايضة القائمة على عدم الاختلاف الكيفي بين الشهرة والتشهير.. فالمهم هنا هو أنْ تلقى المقايضة رضا الجمهور ولو كان الأمر كذباً وبهتاناً.
إنَّ فلسفة (الترند) لن تستنفد خزين المراهانات المعتمدة على أخلاقيات التسوق، ومنح العالم الرقمي بروباغاندا عريضة في نطاق المرئيات التسويقيَّة والتعاملات الإشهاريَّة التي تصور ثقافة الشهرة ودوافعها الإنسانيَّة، فحسب، إنَّها عبارة عن نماذج أو عينات في مجتمع المعرفة، فالمجتمعات الرقميَّة تتحول نحو مجتمع المعلوماتيَّة وفقاً لكتاب "تأثير الثورة الصناعيَّة الرابعة على الأمن القومي" لإيهاب خليفة، والذي يعتمد على فلسفة (الترند) في حسابات الربح والخسارة عبر تشكيل ثقافة التشهير التي تدارُ عبر تقنياتٍ معينة تتبع سحابة الانفجار الرقمي. وهذه التقنيات عادة ما تعتمد على أشخاصٍ محترفين ومهنيين، إلا أنهم بارعون في تحويل دوافع الشهرة إلى تقنيات التشهي.
في حقبة الانفجار الرقمي، يتسارع في ظله كل الشيء نحو الإنفلات من حيز الشهرة قاصداً بؤر التشهير. وفي الطوفان الرقمي لا حدود للعالم الذي تغير بغتة، فكل شيء مسجلٌ تقريباً على جهاز الكومبيوتر يقبع في مكانٍ ما، ويتحرك من ضمن مجالات رقميَّة تشرف على إدارته. كأنما هو عالمٌ خُلِقَ منذ زمنٍ بعيدٍ على وفق حملة افتراضيَّة يقومُ بها جملة من زبانيَّة الانترنت الذين يقودون الكون الرقمي نحو مدياتٍ مجهولة، حتى بتنا نرى العالم الافتراضي هو ذاته العالم الواقعي من دون منازع. فمقولة نيتشه في أنَّ (الحقيقة هي جملة تأويلات لا غير)، ومقولة جان بوديار (ألا حقيقة للواقع، إلا بالافتراض)، ومقولة البرت آينشتاين (إننا نعيش في عوالم موازية) حيث التنقل ممكن وجائز تحققت في ظل الانفجار الرقمي وأحجياته.
هذه الفوضى الرقميَّة هي التي رحنا ندركها، ونقطن في مجاهلها، ليأتي معيار (الترند) كي يخلط الأوراق، حيث تجيء دوافع الشهرة بثياب التشهير، ولكنْ كيف؟
ثمة محددات مثبتة في العالم الرقمي توضح في مقدمتها أنَّنا مقبلون على بناء حضارة قادمة لا تصنعها الحكومات أو الدول، بل تكون السيادة المطلقة للذكاء الاصطناعي، إذ تقوم المؤسسات بالاعتماد عليه، وتخضع تلك الحضارة لفلسفة (الترند) بما يتوافق مع مزاج الإنسان المراهن على وجوده في تصوراته الافتراضيَّة. ومن هذه المحددات ظهور القادة الجدد، الذين لهم منظورهم الخاص في مسألة تنظيم العلاقات بين الجماهير (في عصر الترند لا حياة للفرد، ولا وجود له خارج نطاق الجمهور). هؤلاء القادة هم جماعات من الروبوتات. وعد إيلون ماسك الأميركي، أنَّه في العام 2030 سيكون هناك ملايين الروبوتات تعيش بيننا تحلُّ محلَّ صانعي المحتوى من البشر من "التيك توكر، واليوتيوبر، والبلوغر" الخ.. في غزوٍ رهيبٍ لعالم وسائل التواصل الاجتماعي. وعليه سيعتمد العالم الرقمي على مفهوم المقايضة في السلع، لتسقط ثقافة العملات بأنواعها الورقيَّة والمعدنيَّة، لتنتعش العملات الرقميَّة. إذاً عالم (الترند) هو عالمٌ مدمرٌ للعقل البشري، ومقيدٌ له في حركاته الإبداعيَّة الخلاقة، وهو كذلك مخرب للمجتمعات التقليديَّة، ومشجعٌ للأخلاق الذرائعيَّة، لكنه ممتعٌ جداً في خلق الرفاهيَّة، فالعالم الترندي (نسبة للترند) سيهتمُ بخلق رفاهيَّة الجمهور الرقمي، ولتجد أنَّ عالم الروبوت قد أخذ في استعمار عالم الجمهور، وحطم الجانب العقلي والجسدي (للفرد النادر الوجود الآيل للانمحاء والمحو) ومحددات العصر الرقمي بعد كل ذلك تبذل قصارى جهدها لمحو ثقافة الإنسان الأخلاقيَّة، ليبقى ما يشبه أخلاق كانط (1724 - 1804) الفيلسوف الألماني الذي أقرَّ بأخلاق الواجب، سوى أنَّ فلسفة (الترند) التي تعتمد في شكلها الأداتي وتوجهاتها الذرائعيَّة على فلسفة وليم جيمس "البراغماتيَّة" تعطي مبرراتها في ألا فرق بين منال الشهرة بطرق التشهير، لأنَّ فلسفة (الترند) تسوغ للجمهور ما يود تحقيقه، وإنْ كانت فكرة التشهير بعرفنا نحن الأفراد غير الخاضعين لفلسفة (الترند) منافية للأخلاق الشرعيَّة، يغض جمهور (الترند) الرقمي لما نعدّه فضائح، ما دامت تلك الفضائح تهدف لغاية أساسها الشهرة، ففلسفة (الترند) هي في الأساس خلقت لجعل العالم الرقمي لا ينسلخ عن حضارة مقبلة قذرة بلا أخلاق، ولا معيار إنسانياً سليماً.