الأخرس في مواجهة أوجاع العراق
جاسم الحلفي
يُعَد محمد غازي الأخرس أحد أبرز الأصوات الأدبية العراقية التي برزت بعد عام 2003، حيث استطاع بأسلوبه المميز أن يجمع بين العمق الفكري والجاذبية السردية. يضع الأخرس قضايا الفئات المهمَّشة في قلب اهتماماته، ليمنحها صوتاً إنسانياً بعيداً عن السطحية أو التبسيط.
يعكس الأخرس في كتاباته فهماً عميقاً لتحوّلات المجتمع العراقي وصراعاته، مستخدماً الكتابة كأداة للتعبير عن آمال ومعاناة العراقيين، وكوسيلة للتغيير وبناء الوعي المجتمعي. ما يميزه هو قدرته على المزج بين التحليل الجدلي والإبداع الأدبي، ليقدم نصوصاً ثريّة بالإشارات الثقافية وقادرة على إثارة الأسئلة في ذهن القارئ. إنه نموذج للمثقف الذي يجمع بين الالتزام الإنساني والإبداع الأدبي، ليصنع من كلماته أداة للتغيير والتنوير.
وجدت في روايته الأخيرة (مخطوطة فيصل الثالث: ملك الكوابيس السعيدة) امتداداً لتميُّز الأخرس في السرد والتناول الفكري العميق. ما إن حصلت عليها في مهرجان “أنا عراقي أنا أقرأ” موقَّعةً بإهدائه الشخصي، حتى بدأت أبحر في صفحاتها بشغف ودقّة، مستمتعاً بكل تفصيلها.
لم تكن الرواية مجرد نصٍّ أدبي عادي، بل بدت وكأنها نافذة مفتوحة على عوالم متخيَّلة تجمع بين الواقع والخيال، بين الحلم والكابوس. شخصية فيصل الثالث، جاءت كرمز مليء بالتناقضات، تنقل القارئ إلى عوالم من التساؤلات حول مصير المجتمع والآمال المجهضة.
كتب محمد غازي الأخرس في التمهيد للرواية:
(على الرغم من أن كثيراً من الشخصيات الواردة في هذه الرواية حقيقية، وبعض الأحداث التي قامت بها أو شاركت فيها هي من ضمن الحقائق المعروضة في التاريخ، فإن أحداثاً أخرى متضافرة معها هي من بنات الخيال، والنسيج العام للرواية خيالي ولا يهدف لتوثيق حقائق تاريخية).
هذا التمهيد يعكس وعي الكاتب العميق بمسؤولية التعامل مع التاريخ كمادة خام، تُعاد صياغتها لتخدم أهدافاً فكرية وفنية تتجاوز السرد التقليدي. ويضعنا في سياق الرواية وأبعادها الأدبية انطلاقاً من وقائع تاريخية تسعى لفتح آفاق جديدة للتفكير. وبمزجه بين شخصيات وأحداث حقيقية وبين خيال أدبي مبتكر، خلق نسيجاً سردياً غنياً. هذا المزيج يُبرز قدرة الأخرس على إعادة تشكيل التاريخ بمرونة أدبية، مما يمنح الرواية طابعاً استثنائياً، يُشرك القارئ في عملية تحليلية تتجاوز مجرد القراءة إلى التأمل والتساؤل. ويدفع به إلى خوض تجربة فكرية تطرح رؤية جديدة للتاريخ والحاضر، بأسلوب يجمع بين العمق والبساطة.
وهكذا كان التمهيد دافعاً لي أيضاً لقراءة الرواية بمنتهى الدقة والانتباه. شعرت وكأنني أخوض تجربة استقصائية بين صفحاتها، محاولاً التمييز بين الوقائع التاريخية التي أعاد الكاتب صياغتها بأسلوب روائي محكم، وبين العناصر الفنتازية التي أضفت على الرواية بُعداً أدبياً مميزاً.
نجحت الرواية في جذب انتباهي من اللحظة الأولى، إذ جعلتني أتساءل مع كل صفحة: أيٌّ من هذه الأحداث حقيقي؟ وأيٌّ منها نتاج خيال الكاتب؟ هذا التداخل الذكي بين الحقيقة والخيال جعل من الرواية تجربة ممتعة ومثيرة للتفكير، حيث كان كل مشهد يضعني أمام تحدٍّ جديد لفهم النص من زوايا متعددة. بدت الرواية كأنها "لعبة سردية ذكية"، تجعل القارئ ينساق وراء النص في رحلة تحليلية ممتعة، تبدأ من يوم 14 حزيران عام 1915، يوم ولادة (هوش الله بأرض الله) وهي بداية الحبكة الروائية ووصولاً إلى يوم 14 تموز 1958 يوم استباحة قصر الرحاب، وقبله يوم الأحد الموافق13 تموز 1958 تاريخ كتابة آخر سطر في الرسالة.
وجدت نفسي أثناء القراءة، أتساءل باستمرار: عن الواقعية والابتكار، إذ وضعتني كل صفحة أمام تحدٍّ جديد للتمييز بين ما هو موثق تاريخياً وما هو مضاف كابتكار فني. ما أثار اهتمامي بشكل خاص هو قدرة الكاتب على جعل الوقائع التاريخية نابضة بالحياة بأسلوب أدبي مشوّق. هذه المزاوجة بين الحقيقة والخيال أضحت فرصة ثمينة للتأمل في معنى التاريخ نفسه: هل التاريخ مجرد تسجيل للأحداث؟ أم أنه نصٌّ مفتوح يمكن إعادة تفسيره بطرق لا نهائية؟ توقفت كثيراً عند التفاصيل بعين الباحث المدقق، محاولاً امتحان دقَّتها واستكشاف مدى التزام الكاتب بالحقائق، مع أنَّ النصَّ يحمل بعداً خيالياً. عندما ذكر الكاتب أن عدد نبضات قلب الحصان لا يتجاوز 45 نبضة في الدقيقة، دفعني فضولي للتحقق من المعلومة وتيقَّنت من دقَّتها. ثم جاءت أسماء المدن والمقاطعات الإنجليزية مما دفعني للتأكد من هذه المواقع، ووجدت كل التفاصيل متوافقة مع الواقع.
لم أهمل أشارته إلى أن 13 تموز 1958 كان يوم الأحد، فقد راجعت الروزنامة، وتأكدت من صحة هذه المعلومة. هذه الدقَّة في التفاصيل الزمنية والتاريخية تعكس حرص الكاتب الشديد على تقديم عمل متماسك ومتوافق مع الحقائق، فالكاتب لا يكتفي بتقديم الحقائق، بل يستخدمها كأداة لتعزيز التكامل بين التفاصيل الواقعية وعالم الخيال الغرائبي. الحرص على التفاصيل الدقيقة والدمج المتقن بين الواقعية والخيال هو ما جعل الرواية تجربة أدبية فريدة. على سبيل المثال، شخصية (هوش أو هوش الله) التي قدمها في بداية الرواية كانت مدخلاً ساحراً لعالم يمتزج فيه الواقع بالخيال بأسلوب أخّاذ. هذه الشخصية بما تحمله من غرابة وتفرُّد جعلتني أعيش حالة من الانغماس التام في النص، وكأنني أشاهد مشهداً سينمائياً متقن الإخراج.
الأسماء والشخصيات: قراءة في رمزية التنوع العراقي
تميزت الرواية باختيار مدروس للأسماء، وهو ما أضفى على الشخصيات أبعاداً ثقافية واجتماعية تعكس التنوّع الغني في العراق. لم تكن الأسماء مجرد وسيلة تعريف، بل أدوات سردية تُبرز الخلفيات والهويات المختلفة للشخصيات، وتؤدي دوراً في بناء النسيج العام للرواية.
التركماني، يحمل اسماً يرتبط بتراثه الخاص ولغته، مما يعكس دوره ضمن التنوع القومي والثقافي في العراق. الفارسي يمثل تأثير الجوار الإيراني، موضحاً التداخل الثقافي والتاريخي بين البلدين. العربي الجنوبي، يعبِّر عن هوية الجنوب بما تحمله من تقاليد وقيم متأصِّلة في البيئة المحلية. ابن المدينة (الأفندي)، يجسِّد الطبقة المتعلمة المتمدنة، التي كانت تسعى لتحديث المجتمع وتطويره. الكردي، يحمل اسماً يعبِّر بوضوح عن هويته القومية، مما يبرز التعدُّد العرقي الذي يميِّز العراق. الأسماء الإنجليزية، تعكس النفوذ الأجنبي والتأثيرات الثقافية والاقتصادية. لم يختر الكاتب الأسماء عشوائياً، إنما جاءت كجزء من البنية السردية التي تكشف عن صراعات الهوية والانتماء داخل مجتمع متنوع. من خلال هذه الأسماء، نجح الكاتب في تقديم لوحة غنية تعكس التحديات التي يواجهها المجتمع العراقي في ظل تنوعه. فهي ليست فقط تعبيراً عن الهويات الفردية للشخصيات، بل أيضاً عن الهوية الجمعية التي تتأرجح بين الوحدة والتشرذم. إذ تتشابك خلفيات الشخصيات لتعبِّر عن الصراعات والتناقضات التي تواجه المجتمع. هذا الاهتمام بالتفاصيل يجعل من الرواية عملاً غنياً يدعو القارئ للتفكير في كيفية تداخل هذه الهويات رغم التحديات والصراعات.
الشاكرية والميزَرة وخلف السدة: حكايات الصمود في هوامش العراق
تحدث الكاتب عن هذه المناطق التي مثَّلت الهوامش الفقيرة للمجتمع العراقي، مصوراً بيوتها المصنوعة من القصب والطين، وصرائفها التي بالكاد تصمد أمام تغيُّرات الفصول. في هذا الوصف، تظهر المعاناة اليومية لساكني هذه المناطق، حيث تعكس تلك البيوت الهشَّة هشاشة أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، لكنها تحمل أيضاً رمزية تحمل قسوة الظروف.
الكاتب لم يكتفِ بالوصف المادي، بل أشار إلى البعد الإنساني والحيوي لتلك الأماكن، حيث استمرار الحياة رغم الفقر والتهميش، مشدداً على الدور الذي لعبه سكان هذه المناطق في حركة المجتمع العراقي.
الشيوعيون والأفندية في سردية الأخرس
لم يغفل الكاتب في روايته الإشارة إلى "الشيوعيين" ودورهم في محطات مفصلية من تاريخ العراق، خاصة في أوساط الطبقات الكادحة. رغم المرور المقتضب، إلا أنه كان كافياً لتسليط الضوء على وجودهم كقوة اجتماعية. في جانب آخر، يولي الأخرس اهتماماً خاصاً بـ "طبقة الأفندية"، الذين ظهروا كرمز لمرحلة التحديث والتنوير في المجتمع العراقي. الأفندية في الرواية يجسدون التعلُّق بالكتابة، والصحافة، والأفكار الجديدة كوسيلة للتغيير الاجتماعي والفكري. ومع ذلك، يبرز الكاتب التناقض الذي أحاط بهم، إذ كانوا يسعون لنقل العراق إلى عصر جديد، لكنهم اصطدموا بواقع مليء بالتحديات والمقاومة من الطبقات التقليدية. الأفندية، وفق رؤية الأخرس، مزيج من التنوير والمحاولات المحدودة للتأثير، ما جعلهم أداة محورية، ولكن غير مكتملة في مسيرة التغيير.
بين الشعرية والتفاصيل: براعة الأخرس في صياغة عالم ينبض بالحياة
ما يميز الرواية قدرة معالجة هذه القضايا من خلال جماليات السرد. فقد أبدع الأخرس في صياغة نصٍّ يحمل بعداً فكرياً عميقاً، من دون أن يتخلّى عن رونقه الأدبي. اللغة الشعرية، التفاصيل الدقيقة، والسرد المتعدد الأصوات، كلها أدوات استخدمها الكاتب بمهارة لتوصيل رسائله بطرق غير مباشرة، تجعل القارئ يعيش الواقع العراقي من منظور أدبي. يحمل النصُّ بين طيّاته بعداً شعرياً يعكس الحساسية الجمالية العالية للكاتب، مما يضيف عمقاً وتجربة وجدانية للقارئ. كما أن الرواية تزخر بتفاصيل تعكس براعة الكاتب في خلق عالم ينبض بالحياة، مما يجعل النصَّ أقرب إلى لوحة متكاملة تتشابك فيها عناصر الماضي والحاضر. استخدم الأخرس السرد المتعدد الأصوات، هذه التقنية لإبراز التعددية الفكرية والثقافية في العراق، مما أضفى بعداً إنسانياً واسعاً للرواية.
التاريخ كنافذة للتأمل: تحليل قضايا العراق في سرد الأخرس
ليست الرواية مجرد حكاية عن الماضي أو انعكاساً للحاضر، بل هي رسالة عميقة عن التداخل بين الزمنين. نجح الأخرس في خلق حالة من الاستمرارية بين الماضي والحاضر، حيث تتشابك القضايا والأحداث بطريقة تدفع القارئ للتساؤل عن كيفية تجاوز هذه التحديات وفهم جذورها التاريخية. رواية (مخطوطة فيصل الثالث) ليست نصاً أدبياً تقليدياً، بل هي عمل فكري عميق يعكس تطلعات الكاتب وهمومه الاجتماعية والثقافية. من خلال شخصياتها وأحداثها، تقدم الرواية رؤية شاملة للمشهد الثقافي والاجتماعي العراقي، مع تركيز خاص على تأثير الماضي في صياغة الحاضر. إنها دعوة للقارئ لإعادة التفكير في هذه التحديات والبحث عن طرق لتجاوزها، مما يجعلها عملاً ذا صلة وثيقة بحياتنا اليومية. يمتلك الكاتب قدرة فريدة على استحضار قضايا الماضي، ليس كأحداث تاريخية جامدة أو مجرد توثيق زمني، بل كنوافذ تأمّلية تكشف عن استمرار تأثير تلك القضايا في تشكيل حاضرنا. يبرز هذا بوضوح في تناوله للأمراض الاجتماعية والمآسي التي أضعفت النسيج المجتمعي العراقي.
أوجاع الحصار
في الصفحة 74، يقدم الكاتب رؤية موجعة عن الحصار، متناولاً حصار الجيش العثماني للجيش البريطاني في "كوت العمارة" بكلمات مكثفة: (للحرب طرق عدة لتذلَّنا بها. ولئن جرّبنا رؤية جنودنا وهم يُصرعون في الجبهات، فإننا نادراً ما صادفناهم وهم يموتون كالأشجار التي يُقطع عنها الماء والشمس.) تستحضر ذاكرة الأخرس هنا مأساة الحصار الذي شهده العراق في تسعينيات القرن المنصرم، حين تحولت الحياة إلى معركة بقاء يومية. يصور الحصار ليس كحرمان مادي فحسب، بل كقهر نفسي وانتهاك للكرامة الإنسانية، حيث يصبح الزمن عدواً والحاجة أداة إذلال جماعي. يبرز الأخرس الحصار كرمز دائم لمعاناة متكررة تتجاوز الجسد لتلتهم الروح.
(الحواسم ) بين المأساة والسخرية المريرة
يستعرض الكاتب، ظاهرة (الحواسم) كأحد مظاهر الانهيارات الاجتماعية والسياسية التي رافقت التحولات الكبرى في العراق. من خلال تصوير اقتحام "قصر الرحاب" بعد مقتل العائلة المالكة عام 1958، حيث التداخل بين الفوضى والعبثية، فقد عبر النهب عن انفجار الغضب المكبوت تجاه النظام الملكي الذي انتهى بمأساة، وفي الوقت ذاته، يكشف عن الوجه المظلم للإنسان حين تطغى الفوضى. يبرز النهب كرمز للتوترات الاجتماعية العميقة. تسلّق الناس جدران القصر ودخلوا قاعاته غير آبهين بالمأساة التي وقعت للتو، وكأن الرغبة في النهب تجاوزت مشاعر رهبة الموت الفضيع، لتتحول إلى فعل عبثي يقتلع شواهد الماضي.
يجبرك هذه المشهد على استحضار محطات مشابهة في تاريخ العراق، عند احتلال المحمرة خلال الحرب العراقية الإيرانية، وغزو الكويت في التسعينيات، وفوضى ما بعد سقوط النظام عام 2003 المعروفة بـ"الحواسم". في كل هذه المحطات، يظهر النهب كفعل رمزي يفضح عمق التوترات الاجتماعية والغضب المكبوت، لكنه أيضاً يقوّض النظام الاجتماعي في لحظة الانهيار. بهذا، يقـــــــــــدم الأخرس قراءة عميقة (للحواسم) كظاهرة تتجاوز كونها موجات فوضوية، لتصبح شاهداً على التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى التي عصفت بالعراق.
الغزاة: مأساة إنسانية بين المحلي والعالمي
تكشف الرواية عن قراءة فلسفية عميقة لظاهرة الغزاة، تتجاوز الإدانة التقليدية لتفكِّك مفهوم القوة وآثارها. يُظهر الأخرس التناقض الصارخ بين ادعاءات الغزاة بالحضارة وممارساتهم البربرية، مسلطاً الضوء على الوحشية الكامنة خلف ستار القوة. في استلهامه لرواية (قلب الظلام) لـجوزيف كونراد، يُبرز الأخرس الفكرة المحورية بأن (الغازي لا يحتاج سوى القوة الهمجية)، ليخلق رابطاً بين السياق العراقي ورؤية كونراد. بهذا المزج، تتحول الرواية إلى عمل أدبي يحاكي التراجيديا الإنسانية، مقدماً الغزو كرمز لتناقضات القوة وأداة لفهم الطبيعة البشرية بعمق. الغزاة في الرواية ليسوا مجرد غاصبين، بل أدوات لتدمير الهوية وسحق الروح الإنسانية.
بكاء العراقيين ومناحاتهم
مناحة ملا صبر بن مزعل ونحيب أم هاشم وكواغد في الرواية تُعد من أكثر المشاهد شجناً وقوة رمزية. يصوّر الدكتور الأخرس في هذا المقطع كيف تصبح المناحة والنحيب تعبيراً عن الخسارة الجماعية التي تتجاوز الفرد لتشمل الهوية الثقافية والاجتماعية لشعب بأكمله.
وقد اخترت مقطعين من (نواعي) أم هاشم وكواغد، فحين تبدأ أم هاشم بالنحيب وتقول:
يا حجرة المُلَّة شجرالج
وشنهي السدى وبدّل احوالج
ترد كواغد عليها باكية:
احجي يا حجرة شلون حافوج
كسرو الباب وفرهدوج
بولية مخانيث وولوج
هذه الكلمات التي تنطق بها أم هاشم وكواغد ليست مجرد نحيب على حجر أو باب كُسر، بل هي مناحة على فقدان المعنى والمقدس في حياة الناس، سواء كان ذلك في الأماكن التي ارتبطت بالرموز أو في انكسار القيم التي كانت تحفظ المجتمع من الانهيار. مناحة مُلَّة صبر وأم هاشم وكواغد ليست مجرد جزء من السرد، بل هي لحظة تجتمع فيها كل أوجاع العراقيين، من النهب المتكرر لتاريخهم وثقافتهم إلى الخيبات الجماعية التي تراكمت عبر الزمن.
يعكس الكاتب، من خلال هذه الكلمات، حالة الفقدان التي عاشها العراقيون. إنها لحظة تجعل القارئ يشعر وكأنه شريك في هذا النحيب، يلمس بيديه ما تبقى من الأطلال، ويستمع إلى صدى الألم الذي يعبر الزمن ليصل إلى حاضرنا.
الذاكرة كعنصر للمقاومة
في خضم هذا الألم، يحمل الصندوق المسروق رمزية أعمق، تقول حتى في ظل التدمير والسرقة، هناك إصرار على استعادة الذاكرة والتمسك بها كجزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية.
والنحيب على المسروقات ليس فقط تعبيراً عن الحزن، بل أيضاً دعوة للتشبث بما تبقى من الذاكرة، ولو كانت دفاتر مهربة أو شظايا تاريخ مكسور. الحادثة تجسِّد نحيب الأمة على تراثها الذي تعرض للنهب المادي والثقافي. ورغم كل الخسارات، يبقى هناك أمل في استعادة الهوية والذاكرة، وهو ما ينعكس في رغبة العراقيين في الحفاظ على ماضيهم رغم كل التحديات.
الأوجاع التي يعبر عنها الأخرس ليست مجرد قصص فردية، بل هي صورة جماعية لعراق يعاني، ولكنه يظل متشبِّثاً بالأمل، رافضاً أن يسقط في براثن النسيان. يُعيد الأخرس تعريف النحيب ليصبح أكثر من مجرد تعبير عن الحزن، بل وسيلة للحفاظ على الهوية فالبكاء على الصندوق المسروق هنا ليس استسلاماً، بل تأكيداً على أهمية تذكر الماضي كخطوة لاستعادة الهوية والكرامة. يحول الكاتب المناحة إلى مرآة تعكس الأوجاع الجمعية، لكنها تحمل في طيّاتها رفضاً للنسيان، مما يجعل الدموع رمزاً للصمود في وجه المحن.
يبرز الأخرس كيف أن النحيب في الرواية يتكرر في كل مرة يواجه فيها العراقيون جرحاً جديداً، سواء كان، حصاراً اقتصادياً حيث يتحول الجوع إلى رمز للقهر. غزواً واحتلالاً، حيث تُسلب الأرض والذاكرة. نهباً للتراث حيث تفقد الأمة ما يُميزها ثقافياً وحضارياً.
يُجيد الأخرس استخدام المناحة كوسيلة سردية تُبرز الأبعاد النفسية والاجتماعية لشخصياته:
فالمناحة ليست فقط فعلاً شعورياً، بل لغة تعبر عن العراق كمكان وزمان وذاكرة، كما أنه ليس مجرد بكاء على الخسائر، بل هو إدانة رمزية للواقع المُرّ ودعوة للتفكير في المستقبل. ما يجعل الرواية مؤثرة بشكل خاص، لا تكتفي بتقديم الألم كموضوع أدبي، بل تجعل القارئ شريكاً في النحيب، إذ إن الأخرس يخلق تجربة تجعل القارئ يشعر وكأنه جزء من هذا الألم الجمعي.
التألق في الواقعية الساخرة
قدّم الدكتور محمد غازي الأخرس رؤية أدبية متميزة تجمع بين العمق الثقافي والأسلوب الأدبي المتفرّد. واستخدم أسلوب (الواقعية الساخرة)، ليعبر عن تناقضات المجتمع العراقي وأزماته، عبر تحوّيل المآسي إلى مشاهد تحمل طابع الفكاهة السوداء، مما يجعل القارئ يضحك بمرارة على عبثية الواقع. نجح في استحضار الماضي لفهم الحاضر، مؤكداً أن الأزمات تتكرر ضمن دورات تاريخية. تجاوز الأخرس كونه كاتباً نخبوياًّ، ليصبح مثقفاً فاعلاً يضع الإنتاج الثقافي في خدمة التغيير. يُعيد صياغة المعاناة بطريقة تجعل القارئ يرى الواقع بمنظور أكثر إنسانية.
يصنع تجربة أدبية ممتعة وعميقة، تنقل رسالة بأن المهمشين ليسوا ضحايا فحسب، بل هم فاعلون في صنع التحوّلات الاجتماعية والسياسية. الرواية هي دعوة للتفكير والتغيير، كما أنها تعكس مكانة المثقف كمحفِّز للوعي الجمعي في مواجهة التحديات.