د. عقيل مهدي يوسف
يبسط عقيل الخضري في السرد الروائي ثقافته الاجتماعية، ويتطرق بذكاء وفكر دقيق إلى فظائع وإذلال وتعذيب "الجنود" في الحرب، وبشكل مرضي "سادي" حيث يسوقونهم إلى القبور والزنازين من غير ضوابط قانونية، توفر لهم حق المواطنة.
وقد اتجه من وجهة نظر "نفسية- اجتماعية" برصد اتجاهات سلوكية لشخصيات رواياته التي تخص النساء والرجال والأبناء والبنات، وما تتركه "الحرب" من تفكك ومعاناة اجتماعية وأمراض وجنون. وذلك بما يتعلق بروح وعقل فلسلفي، للأفكار المتصارعة سياسياً وَعرِقياً، ودينيا ليوضح حقيقة الظلم التي عاشها أبطال رواياته وأسرهم العائلية في تجربة الغربة والملاحقات الإجرامية التخريبية العبثية لتدمير المنظومة الأخلاقية السليمة، وتحولاتها الفجائعية المتنامية، بارتكاساتها المأساوية من الماضي إلى الحاضر المعاش.
قارب الروائي، النهج الواقعي التفصيلي المتماهي بشكل أقرب إلى الطبيعية، في أبعاده اللغوية، والمضمونية، برصد "ثقافي"، للمفاسد الشائعة باختيار اسلوب تقديم مادة الرواية، وحكاياتها المتشابكة في زمن محدد تارة، ومفتوح تارة أخرى في بيئة سردية متسعة وشاملة، لما يعانيه المواطن في داخل بلده وخارجه، ومكابداته لاضطرابات، واختلال سلوكي بتوترات وشعور بالإحباط الجمعي لما تركته الحروب من عجز على التكيف مع واقع سوداوي مدمّر!
وحسب "فولتير" إن "الذين يجعلونك تعتقد بما هو مخالف للعقل قادرون على جعلك ترتكب الفظائع". رواية "أوراق عائلة عراقية"
يقرن الخضري في هذه الرواية مآسي الحاضر، بزمن الاحتلال العثماني مجسداً، بالقائد "عاكف بيك" الذي صوب قذائف مدافعه ضد مدينة الحلة وأباح المدينة لجنوده، وفتك بإعدام الرجال وهو يسوق السبايا إلى الأناضول، على الاقدام إذ لم يعد منهم سالماً من الموت إلا أنفار. ويسرد الرواي عن خروج أب وأسرته مع شيخ نصار، وعائلته أيضا إلى الهند عبر كشمير ولاهور، ويرسم لنا مشهداً لمقتل شباب عراقيين برصاص كمائن، على الحدود الهندية ثم هاجروا إلى افغانستان وتركمانستان فاللاجئون "مثل عصافير في قفص، لا يبحثون الا عن منفذ للهروب" ومن ثم يضع بعداً سردياً، يخص ذكريات أبطاله الكارثية، ويدوِّن أشعارا شعبية عراقية، مضمخة بالعذاب، والمعاناة والتقتيل، ومنذ التقديم للرواية يعلن البطل، أن "مرادي الذهاب الى مكان لأنزوي فيه مع نفسي، لا احد غيري- اسد الله غالب".
أما حال سعدة، فإنها تتقلب- كما يقول الراوي، في فراشها وهي "مثلي" تهيم في خيالات ومخاوف- ليضمن السرد: بأن الغيوم كتلال من جليد، بلون الرماد- والريح تصفر، ص176.
إعدام عبدالله عاشور
يبدأ الخضري هذه الرواية بمقدمة "حركة لاهثة تنغز في عمقي، المروحة عليها سخام السنين، وحطت عليها عدائية دهر، تعلوني كقدر، أكرها" ويستذكر قول المعري: أودعكم اهل بغداد، والحشا على زفرات ماينين من اللّذع.
ويتماهى البطل مع مقولة فريد الدين العطار: "إني مثل حمار مسن، يمتلئ بالجراح من أثر الأحمال الثقيلة وإن ركنتُ الى الراحة بعض الوقت، هاجمني الذباب لنهش جراحي".
تدور الحكاية، عن "راية العراق" التي تطوي "نعش صديقي، ترتعش بعنف رهيب، يناسب مهابة ما تحتضن"، ونفهم أنه "جندي شهيد" وهو مثله، وهما يحملان "قرص هوية معدنية" فهو الآن يدرك أن مفهوم الوطن، هو "نعش فوق سيارة" ماذا سأقول لأمه؟ وصوته في وجداني: "على كيفك من تخبر أمي لا تصدمها دفعة واحدة، خطيّهْ، ويتذكر ما جرته الحرب العراقية- الايرانية من مآس، فقد كان فناناً، لكن في يوم أسود، يقول: "بعت لوحة مائية، لنوري الراوي"، وهو يرى دمار أسرته وزوجته وبناته ووالده- وباع كل ما تمتلكه الأسرة من كتب ومجلات واثاث- فقد عانى مجنداً من أهوال الحرب ودمارها، وهو محشور بين السواتر وأكياس الرمل ويتذكر أمه: "يمه ما أريدك تقتل واحد، لا تلطخ روحك بدم بني آدم" – اصطخب جو الرواية، بشخصيات ريفية وحضرية ونسوة، وتتصادى، شتائم مرذولة، ما بين متزوجة وعانس- ويعاني من "ضياع اخته امينة". في الخاتمة "الزوجة عواطف"، تقول "اخاف عليه يتخبل، ونضيع أنا والبنات" ص200.
التوابيت لا تكفي
يعالج الخضري في هذه الرواية "تداعيات ما بعد احتلال بغداد 2003 في زمن الحصار والحرب مع ايران واحتلال الكويت والحرب الاهلية" التي - لا شأن للمواطن فيها- الروائي يحاول رسم صورة سينمائية في سردياته، وهو يجعل الأحداث وكأنها انعكاس بالصورة والصوت، لكي، يشكل فيض من ذاكرة كونية. وهنا نجد البطل مثقفاً محباً للأغاني أيضاً يقول "تترنح في بالي، اغنية خوليو اغليسياس: كشخص مؤمن قتل الهة، فاستمر يعيش بلا معنى" إذ بات البطل يرى الأرض متاهات لأرواح ملايين من البشر، وتراه مندفعاً للتصوف، وهو "يرى الأرض والعالم" بما لا يرى بالعين المجردة، لتداخل الوعي واللاوعي، لديه- حتى أن علم الفيزياء يؤكد "المادة والطاقة" فالذاكرة الكونية تتشمل على "الجمال والمواهب والأرزاق"، ثم يذكر أسماء تخص الامام علي (ع)، والشيخ الكيلاني وابوحنيفة، وابن تيمية وأبو نواس والمتنبي، وجحا، وعبود الكرخي، والرصافي والزهاوي، وعلي الوردي، ونوري السعيد. وينعطف الى كتابات "جيخوف" الذي يؤمن: بلا مكان للمنطق في عالم الرؤى والأحلام وابن عربي، وارسطو، فالحالم يغيب عن الحياة حتى الضمير في الأحلام يبدو "أخرس". هنا تتصدر الصوفية المشهد بتواصلها "الروحي، بوجدٍ ونشوة وهروب من جور الدنيا": "فالكون: وجود: والله هو الكون الاعلى" ص16. وتتداعى هنا اسماء البيروني، الخوارزمي، الترمذي، ابن سينا، البخاري- حتى هارون الرشيد- "فللمدن وجوه تتغير، كما بغداد، إذا انتهكت حرمتها، حتى الحلاج الصوفي، قطّعت اطرافه، لكن يبقى الذكاء والفطنة راسخين، بخلاف الغباء والبلاهة. يقول ابن الفارض: "إن الغرام، هو الحياة فمت صبّا، فحقك ان تموت، وتعذرا".
ويقول "بابلونيرودا": "لو امكنني أن أبكي من الخوف وأمكث في بيت مهجور"، وبات البطل يعرف أن "الحلاج أظهَرَ"، لكن "الثبلى: كتَمَ" ثم يحيلنا إلى المقابر، وهو معجب بموسيقى "جايكوفسكي"، ويمحص، سلوك الإنسان، ليخلص أن "العقل رحيم، والجسد رجيم" مستذكراً الملوك في العراق والرؤساء، الذين قتلوا.. وهكذا هي الحياة تشطب البشر، ويتذكر قولاً للشيخ جمال، "السلف، صنعوا اقفاصاً وحشروا أنفسهم وحشرونا معهم، فيها" كذلك يصغي لموسيقى "جايكوفيسكي، وروايات همنجواي، وسمفونيات موزارت وبتهوفن".
وينظر إلى أساليب السلطة الاجرامية وما جنته على الشعب، من فجائع، وتقتيل للأطفال اليتامى، والمشردين، حتى "البنت الفاتنة: شمس" ماتت في "تابوت من فضلات خشب، خارج العراق"، هنا تتداعى، أبعاد صوفية إذ يرى فريد الدين العطار: "عندما تموت، سوف يتضح بأنك كنت ميِّتاً في الحياة"- وهكذا ينتهي الحال، الى مقولة الحلاج: "إذا انحلّ القفلُ عن القلبِ، أشرف على الغيوب" ويصف البطل في الرواية حاله: "طففت في مقابر الغرباء"، ونختم الرواية "مع صور مرسومة للحلاج في اعدامه ومدفنه، وجسر الشهداء" ص284.