خضير الزيدي
لم يكتف الفنان اللبناني جبران طرزي بعشرات الأعمال الفنية التي اتّخذت من الطابع التجريدي سياقاً فنياً لها، بل عمل على انجاز "الصناديق الخشبية والمرايا الفنية" التي اتّخذت من النقوش الإسلاميّة فضاءً جمالياً ميزها أمام أنظار المتلقي وحملت تلك الأعمال أكثر من توصيف، لأن خيار التعاطي مع طبيعتها فرض طريقة غير مألوفة بالقياس لعمل اللوحات المسنديّة. ولعل أهم ما تحمله خصائصها أنها تلجأ إلى ملامح الفنّ الشرقي الدقيق في التنفيذ وطبيعة الحركة وبناء أو تحديد مفردات العناصر الفنية.
الملفت في هذا السياق ثمة علاقة بين الوحدات في تعيين الاطار العام للعمل الفني الواحد، وهنا يمكن أن نشير إلى الطاقة التعبيرية كونها تقترن بخاصية وسيط وبتمثيل زخرفي يبدو تقليديا في الشكل لكن المراقب لدقة عمل الفنان والتنظيم الموزع في البنية المركزية سيجده ذات طابع بنائي حداثي، حيث الصياغة التي تقربه للمتلقي ضمن الأداء الفني المعاصر كونه زاوج بين مرجعية التراث ودوافع الاداء التجريبي. وبقدر ما يجعل من المفردات التصويرية أمراً حاسما في فنه فهو يضع في منجز "الصناديق والمرايا" تكوينات تتجاور ضمن توجه جمالي صرف، فما الذي يبتغيه الفنان جبران طرزي من طبيعة عمله وما تحمله النقوش من طرق تركيبية خالصة؟ حتى نضع التعامل والرؤية وفق تصورات فنية علينا القول إن جبران طرزي فنان مسكون بهوس التراث الشرقي في جميع أعماله. وتتجلى بصورة واضحة تلك التي اتخذت من الطابع التجريدي الهندسي هدفا لها، فمخيلة هذا الفنان لم تذهب بعيداً عن الاداء الجمالي أنما انطوت على طبيعة تعامل دقيق مع الوحدات والعناصر المبنية على فن شرقي فجاءت الصناديق والمرايا بإخراج شكلي متوازن وبدت مختلفة في طبيعة التجاور والتوزيع قياسا إلى المربعات والمثلثات والأشكال الهندسية الأخرى التي رافقت لوحاته، لكن الاختلاف تحول بطريقة تكوين أقرب للتآلف الشكلي المعزز للبناء كوحدة موضوعية اعتمد على الاستعارة من التراث العربي بالإضافة للثيمة التي يراها الفنان موضوعا مهما وهو اللجوء إلى موضوع وانتماء شرقي له علاقة مباشرة مع ذاكرة وخيال الإنسان العربي، وتكاد تكون تلك الأعمال التي أنجزها من المرايا التي تألفت بأسلوبية مماثلة للصناديق أن تتضمن خصوصية من نوع ملفت واهتمام متزايد، فهو يقتصد في الوحدات ويثير جانبا رمزيا في بيان تعبيريتها، ولكن ماذا نسمي كل تلك المعالجة؟ هل هو خروج مقتصر على الاشتغال اليدوي الدقيق، أم هنالك حسابات أسلوبية أراد لها التنوع في الاشتغال كي يعزز من اسمه الفني بعد أن نفذ مجموعة من تلك الصناديق الخشبية والمرايا.
ثمة اكتشاف يلقي بظلاله أمام عين المتلقي، وهو يتأمل تلك الأعمال الفنية يكمن في بيان صدق التعبير والشعور المتواصل بالرغبة في العمل وسيتضح لنا أن الفنان يميل إلى العمل التجريدي كتمييز لخياله ولكشف نتائج توصلاته الجمالية مع الفن الشرقي فحيوية الفنان وحسابات تنظيم عمله مكنته أن يثبت لنا أن وراء تلك الاشتغالات يقف عقل نير يهيئ للمتلقي فنا يبقى في الذاكرة وينحاز ذلك الفنّ إلى وحدة موضوع. وأتذكر ما قراءته ذات يوم من قول لماتيس "الفنان يدخل في حالة الابداع من خلال العمل الواعي والإعداد للعمل" ويتطبق القول هنا على كل تلك التفاصيل الدقيقة التي ترافق صناعة صناديق الخشب ومرايا جبران طرزي، فالعينات التي نراها من عمله بدت على أعلى مستويات الدقة في البناء فيما ذهب خياله وقدرته الثقافية إلى تعزيز الخطاب الفكري الذي يمكننا من العودة لقراءة التراث المشرقي عبر نشاطه الفني.
لقد اكتشف طرزي أن متطلبات فن ناجح لن تأتي بتكرار للفكرة، إنما يؤدي العمل إلى إجراءات وتفصيل وتنفيذ يحتاج لصبر وهدف معين.. ولا غرابة أن تكون تلك الصناديق الخشبية التي شيدها بطابع جمالي بدت اكتمالا لمسار عمله في اللوحات المسندية التي شهدتها أغلب المعارض المعروفة، مثل "المتحف العربي للفنّ الحديث في دولة قطر عام 2015" وأيضا ما تم عرضه من أعماله في باريس عام 2016 مع أعمال الفنان العالمي فزارلي، كل ذلك يؤكد لنا بأن اسم جبران طرزي سيبقى راسخا في ذاكرة الفنّ العربي العريق.