اليزابيث و {خرّيط} فطيّم العجيب
كاظم جماسي
نلتقي وجهاً لوجهٍ، بين زمنٍ وآخر، ومن دون موعد، مع صفحة تهكميَّة من الصفحات اللا محصورة من كتاب الحياة، وقد دأبا على كتابته تاريخ وجغرافيا البشريّة كلاهما.
صفحة مضمرة تنضح حكمة خبيئة ما، لا تسفر عن نفسها إلا لذوي فطنة خاصة، ومثلما الفطنة هبة الطبيعة للناس، يحدث أن يكون البعض منهم، امرأة كانت أم رجلا، من الخاصة أو العامة، حكائين شفويين، أو مدونين بشتى التوصيفات، يفصحون عن كشوفاتهم فيحفظها لهم الزمان والمكان، كما أن الخبيء من الحكمة تلك لا يتواتر كشفه سراعاً، وغالباً في أزمان جد متباعدة، ألا إذا توفر له ما يستدعيه مذكراً بحدوثه.
ظلت شاشة الـ "بي بي سي" مصدراً، وشاشات من عديد دول العالم تتوزع جغرافيا الأرض، تتلقى الناس منها، على مدار الساعة ولمدى أسابيع، تغطية خاصة بدءاً من لحظة وفاة الملكة اليزابيث الثانية، والاستعدادات الخاصة لتجهيز جثمانها، وسيل من الأفلام الوثائقيّة وغيرها تخبر آخر إنسان في آخر شبر من الأرض، بمحطات حياتها، مذ كانت طفلة حين شعت على محياها علائم القيادة، مروراً بسِني نضجها المبهر واعتلائها العرش خليفة لأبيها، وهي بالكاد قد بلغت الخامسة والعشرين، حتى لحظة موتها، هذا الحدث الجلل، الذي راحت أصداؤه تترجّع داخل بريطانيا العظمى وحول العالم خارجها، لا سيما دول الكومنويلث، بوصفه حدثا زاخرا بالعقابيل، حتى يوم مراسيم التشييع والدفن.
"فطيم أم تفگه" جدتي، ("تفگه" تعني بندقية بالعراقية الدارجة)، كانت صاحبة صولات مجيدة، ظلت حديث المجالس، على ظهر مهرتها "غزيله البيضه" حاملة تفگتها وتتمنطق بحزامين من الرصاص، تطارد انصاف الليالي، صيفاً وشتاءً، اللصوص الطامعين بثروتها من الماشية وغيرها، فضلاً عن أن كرمها فاق الوصف في مضيفها المعمور في "حلفاية" العمارة.
روتْ لي مرة، من قبل أن تناهز السابعة والسبعين من عمرها، وكانت حكّاءة ماهرة، الحكاية التالية:
كنتُ في العاشرة من عمري وأختي الكبرى "زهرة" في الحادية عشرة، كل منا في غرفتها تغط بنوم عميق، فيما، علي، أخي الرضيع يغفو هانئاً في حضن أمي، حين أفقنا مرعوبين، على سماع وقع أقدام تتراكض في أسفل القصر، مصحوبة بأصوات نواح وعويل، أخبرتنا أمي، فيما بعد، ان زوجها، أبونا مات. وبعد مضي زمن من السنة ذاتها عرفنا، أن أبي فارق الحياة بفعل سم زعاف دُسَّ له في طعام العشاء وهو سجين إقامته الجبريّة الطويلة في القلعة.
وبموته سقطت آخر إمارة عربيَّة في الأحواز، وعاصمتها المحمّرة، أكبر إمارة تحتل الساحل الشمالي للخليج العربي بأكمله، وقبل ذلك تمَّ اختطاف أميرها الشيخ خزعل بن مرداو الكعبي، أبي، من قبل الإنكليز، وكان نائماً في يخته، ووضعه قيد الإقامة الجبريّة في قلعة طهران لسنوات من قبل شاه ايران رضا خان.
سكتت برهة، امتصّتْ دخان غليونها، وكان أثراً من بقايا أبيها، منحوت مبسمه من الفضة وحوض تبغه من الصندل، تجشّأت ثم واصلت:ـ
أخبر السير جيمس بينتر وكان أحد أبرز مستشاري جورج السادس عاهل بريطانيا العظمى ووالد أليزا، بأن سقوط إمارة كعب، حسب نبوءات نوسترادموس، نذير شؤم كبير سيلحق بالمملكة شراً عظيماً، تتشظى بإثره الأمبراطورية نتفاً وأوصالاً، وستغيب عن عديد مستعمراتها الشمس والى الأبد. حين سمع الملك النبوءة تلك لم ينم ليلته، وداهمته سلسلة كوابيس خفق قلبه سريعاً من وطأتها، ونزت مسامات جسده عرقاً غزيراً، واستولى عليه، في اليوم التالي والأيام اللاحقة، إمساك شديد في أمعائه وانحصار حاد في إحليله، لم تفلح في فك عقدتيهما كل وصفات عباقرة الطب والصيدلة من رعاياه الأنجليز، ولكن على وفق مشورة قدمها السير هاري أندرسن طبيب الأسرة المالكة في العراق، فقط حلت المعضلة.
أشار أندرسن الى أن الـ "خرّيط"، وهو ثمر زهور قصب البردي في أهوار جنوب العراق، وحده من له القدرة على تسليك مجاري الملك الداخليّة، فانطلقت على الفور الطائرة الحربيّة غلوستر، وكانت حينها، أحدث ما تفتقت عنه عبقرية العقل الحربي الانجليزي، انطلقت الى جنوب العراق وهبطت في محطة سلاح الجو الملكي في الشعيبة جنوبي البصرة، وعلى وجه أقصى السرعة، استقل المكلفون سيارة خاصة وتوجهوا الى منطقة الحلفاية، جانبها المحاذي لهور الحويزة جنوبي شرق العمارة، نزلوا ضيوفاً مكرمين في مضيفي، ثم لم يلبثوا حتى عادوا من حيث قدموا.
بعد أن منحتهم كمية جيدة من الخرّيط، إلتهم حفنة منها مليكهم فتعافى فوراً وغدت مجاريه سالكة، فيما تم خزن المتبقي من "الخرّيط" تحسباً لحالات مماثلة.
جواباً عن سؤال يرضي بعض فضولي، كيما استكمل، بإضافة لمروية فطيم جدّتي، خيوط نسيج قصتي هذه، سألت ذات مغرب أبي: صف لي أمك في شبابها؟
جوبهت فوراً منه بنظرة شزرة غاضبة، فهمت أنني ارتكبت حماقة عظمى، إذ كان مضيف أبي غاصّاً بوجوه عشيرتنا ووجوه من عشائر أخرى.
فهربت من المضيف سراعا.
طلبني لغرفته الخاصة ليلا، ولما حضرت، أفاض قائلا: لم تك ولن تكون من امرأة تشبه جمال جدّتك على الإطلاق، طويلة هيفاء، حين تمشي تميد فتراها اثنين، يقسمها الحزام، وكمن يعد ليرات الذهب مع خطوات الأقدام، همستها فيء وبسمتها زهر الجوري، وقع بغرامها، فرساً وعرباً، أمراء وحكّام وتجار، لم تلقِ بالاً لأيٍّ منهم، فقد كان قلبها، منذ زمن أسيراً لدى ابن عمها،" ثاني مزعل مرداو" لما اتّصف به من شجاعة وحصافة رأي ورصانة هيأة وصمت غالب مهيب، فقد كان يندر أن يتكلم، وإن نطق أبهر مستمعيه بحكمته ورجحان رأيه، حتى وصل الأمر بجدتك، أن تطلب تزويجها به من جدك بعظمة لسانها. وتم لها ما أرادت.
في العام 1956 والحديث لم يزل لجدتي "فطيم": كانت أليزا الشابة، كريمة الملك المصون، حديثة عهد بالجلوس على كرسي العرش، وفي أعقاب هزيمة دول العدوان الثلاث على مصر. أصيبت بإمساك وانحصار مشابهين لما أبتلي بهما أبوها الملك، ولم تفلح أيضاً في فك عقدتيهما كل وصفات عباقرة الطب والصيدلة الأنجليز، ولكن سارعت لجنة أطباء قصر بنكهام وعلى رأسها ألسير توني أندرسن الأبن الأكبر للسير هاري أندرسن الى ذات الوصفة "الخرّيطيّة" المصنّعة من قبلي، فانخرطت مجاري العاهلة المبجلة جميعها وعلى الفور.
لقيت "فطيم أم تفگه" اهتماما غير مسبوق من قبل السفارة البريطانية ومكتب المندوب السامي في العراق، فضلاً عن رعاية خاصة من لدن الملك الشاب غازي ووصيه عبد الإله، مضافاً إليهما ثعلب السياسة العراقية نوري باشا أيضا. والعهدة كما يقال على القائل، والقائل هنا شيخ طاعن في السن من وجوه قبيلة كعب المبرزين، وكان من الرعيل الأول لعشاق جدتي، الذي استرسل: من معطيات ذاك الاهتمام وتلك الرعاية اندحار مطامع الشيوخ الإقطاعيين المستمرة منذ زمن في الاستحواذ على قطعة أرضها الصغيرة التي يحدها نهر المشرّح شرقاً والهور جنوباً، إذ بدت أشبه بجزيرة غناء في بحر إقطاعياتهم المترامية، وبات أولئك الشيوخ يتوددون بطرق مختلفة اليها، يرسلون الهدايا فتردها، يدعونها الى مجالس مضايفهم فترفض، كما رفضت أية بادرة اهتمام من الانكليز أو رعاية من القصر الملكي أو الحكومة، إذ لم تكن تتقاضى فلساً أحمر واحداً زيادة عن استحقاقها مما كانت تشتريه السفارة أو القصر من حليب جواميسها وأبقارها وخرافها أو لحمها، وكذا غلة صيد مشاحيفها من أسماك البني والقطان والشبوط وغيرها. وفي إثر ذلك لحقها لقب "أم خشم اليابس" لأنفتها وتعففها اللافتين.
أخبرني أبي أن جدتي، طوال سِني حياتها كانت كما مرآة تعكس حال رياح البلاد، فإنّ كانت تلك الرياح هينة، كما حدث في العام 1941، تنزكم وترتفع سخونة جسدها، وإن غدت الرياح تلك أكثر شدة، مثلما حدث في العام 1958، رقدت لأسابيع رهينة حمى مدمّرة، وإن صرصرت ثم تناوحت، كما حدث في العام 1963، كادت تفارقنا بجلطة دماغية، طرحتها فراشاً عليلة شهورا طوالا، ولكنها ما تلبث حتى تنهض، عنقاء تزدهي بالكبرياء من جديد، وغير تلك الوقعة.. وقعات ووقعات.
تنبغي الإشارة، من بعد، أن لم يكُ من نجاعة لعلاج أو دواء أو طبيب في نهوضها في كل وقعة، سوى لسحر "خرّيطها" العجيب!
•••
طوال الطريق إلى المقبرة، كان موكب تشييع جنازة "فطيم أم تفگه" مهيباً بنحو لافت.. سيارة الكراون التاكسي التي تحمل التابوت فوق قمرتها، وتحملنا داخلها، السائق وأبي وأنا، تتوسط قافلة من سيارات الهمر رباعية الدفع موشحة بالعلم الأمريكي، ومدافعها الرشاشة مصوبة، من قدام ومن خلف، تجاه التابوت، لكأنها تخاف انكشاف غطائه ووقوف "فطيم" من جديد، بينما يقف خلف تلك المدافع، مستريبين متحفزين، شاكي السلاح، جنود المارينز وهم يشهرون، جميعهم، أصابعهم الوسطى.