رضا المحمداوي
في خضِّم هذا العالم المضطرب الذي نعيش فيه، والحياة اليومية الصاخبة التي نحياها بكل ما فيها من توتر وقلق وصور الموت والقتل والعنف والاغتراب، كيف يمكن للحبّ أن يؤكد حضوره في الحياة عموماً، وفي الشعر المُعبِّر عنها؟
وهل هذا الحُبّ واقع يوميّ أم حلم في مُخيّلة شاعر أم هو رؤية إنسانية ونزوع إلى عالم أسمى من هذا الذي نعيش في أتونه؟
لكن في المجموعة الشعرية الجديدة لعيسى إسماعيل العبادي "أُحِبُّكِ في حالاتكِ كلِّها" يبدو الحُبّ فيها وكأنه حكاية تحدث كل يوم حيث يرسل قلب عاشقٌ نبضه ليرسم قُبلة في الهواء أو يرسم شكل القلب العاشق على نافذة تراكم على زجاجها ضباب الشتاء في ليالي السهاد الطويلة، فالحياة الثقيلة والقاسية وبكل ما تحمله من أسى وما يتراكم في طرقاتها من رماد يجعلها الحبُّ ممكنة الاحتمال ويختصر المسافات الطويلة ويجعلها مجرد مسافة حنين جارف أو مسافة بين دمعتين حيث يشيع ذلك الحب حياة عاطفية يملؤها شعور رومانتيكي يعيدُ إليها نبل العاطفة الإنسانية وصفوها وهدوءَها المفقود.
ضمّت المجموعة 66 قصيدة وجمعها مناخ شعري واحد مُحدّد بموضوعة "الحُبّ" ولا شيء سواه، ونتيجة لهذا الإخلاص الشعري من قبل الشاعر لموضوعته الرئيسة، يبدو الديوان وكأنه قصيدة حب واحدة ولكن بتنويعات متعددة ومتنوعة، فقد طغى الحُبُّ على القصائد وهيمن بإجوائه، وأصبح هو الطابع الغالب على التجربة الشعرية.
وتبدو القصائد وكأنها بوح داخلي أو حوار بين عاشقين يتناوبان على الإفصاح عن مشاعرهما الدافئة وعواطفهما، وحتى عندما يخيم الصمت والهدوء عليهما ينوب ما حولهما بمهمة القول والإفصاح ويبقى الحوار بينهما أقرب إلى الهمس والقول الرهيف.
وفي الأسلوب الفني الذي اعتمده الشاعر في نظمه للقصائد نلاحظ طريقة تقسيم ذلك البوح والإفصاح العاطفي بين نوعين مُحدّدين، فبعض القصائد جاءت على لسان الرجل العاشق، والبعض الآخر ورد على لسان المرأة العاشقة رغم التباين والاختلاف في حضور أحدهما إزاء غياب الآخر في مجمل قصائد
المجموعة.
وفي التأكيد على ميزة الحوار أو الحديث الهامس والطاغي في حضورِهِ داخل القصائد بين العاشقين نجدُ العاشق مرة يتحدث والمحبوبة تصغي، ومرة أُخرى تتحدث العاشقة والمحبوب يصغي، بل وحتى ترتيب القصائد أو تسلسلها داخل الكتاب يؤكد هذا الأسلوب الفني أو الصيغة التعبيرية فنجد قصيدة حب على لسان العاشقة تليها مباشرة قصيدة حب على لسان العاشق وكأني بالشعر، هنا، يسعى للتأكيد على هذا التجاذب العاطفي والتناغم في موسيقى الحب الطاغية في هذا
الحوار.
وقد يبدو العاشقان متباعدين عن بعضهما البعض لكنهما يبقيان قريبين، لأن المسافات هي البعيدة فيما تبقى القلوب العاشقة قريبة من بعضهما فتقول له ويقولُ لها، وحينها يكون الحب حاضراً بكامل دهشته، ومكشوفاً مثل برق في سماء ليل شتائي أو مثل لمعان قطرات المطر تحت الأضواء.
ومن خصائص الأسلوب الفني لعيسى إسماعيل هنا، هو اعتماد القصيدة القصيرة، فقد عمد إلى انتهاج هذا البناء الفني بلغته المختصرة بشكل عام، ولذا جاءت القصائد القصيرة مكثفة، وموجزة، لكنها ظلَّت مكتنزة، لا اِستطالات فيها ولا تمهيد، تبدأُ بانسيابية رائقة لتنتهي بذات التدفق وكأنها مقطع عرضي أو جزء مقتطع من التجربة العاطفية نفسها، ولا يُعكّر صفو جريان كلماتها أيّ اعتراض أو إسهاب أو محاولة للميل بالقصيدة إلى هذا الجانب أو ذاك.
من هنا تبدو القصيدة القصيرة وكأنها صُممًّتْ كي تكون دفقة شعورية واحدة وبإحساس مشبوب العاطفة ليتنهي بسرعة مثل برق في غيمة عابرة أو وميض نجمة بعيدة.
ونظراً لقصر القصيدة الواحدة وتكثيفها اللغوي نجد أنَّها تمتد على مساحة صفحة واحدة من صفحات الكتاب - وهو من القطع المتوسط - ويتكوَّن متنها من سطور قليلة ومن كلمات تبدو مُقطرة أو مضغوطة لغوياً تأخذ مكانها بين السطور.
ورغم اعتماد بناء القصيدة القصيرة يلجأ الشاعر إلى تقطيع المتن القصير إلى مقاطع قصيرة مُرقّمة كطريقة مساعدة أُخرى في عملية الاختصار والاقتصاد في اللغة، ولذلك وَجدْنا بعض تلك القصائد قد تمَّ تقسيمها إلى مقطعين أو ثلاثة أو خمسة مقاطع.
وإزاء "الحُبّ" وحضوره المهيمن في المجموعة الشعرية وشيوع الأجواء العاطفية الحميمة يجي استخدام الشاعر لتلك اللغة الرقيقة الناعمة وصياغاتها اللغوية العذبة بما دَعَمَها من بناء موجز وقصير.
وقد وجد الشاعر بمفردة "الورد" كمعادل تعبيري وصوري عن الحُبّ والتعبير عنه بما يكتنفهُ من مشاعر وعواطف، ولذا وجدنا الشاعر قد أفرط بإيراد صور الورد واختيار عناوين قصائده مثل "بانتظاري عند منعطف الورد، مفتاح من الورد، لا نمشي على الياسمين، رودي رتبتها يداكِ، قبل أن يستيقظ الورد، يأخذني الورد إليكِ"، أو في إيراد صور الورد وتشبيهاته داخل المتن الشعري نفسه، حتى خُيَّل إلينا أنّ الشاعر قد كتب قصائده بماء الورد حيث الياسمين والرازقي.. الورد الذي يُعيدُك إلى الطبيعة والجمال والنقاء.. الورد الذي يتحدث، بل الورد الذي يضيء.
ولذا سيتسرب إليك انطباع أو شعور وأنت تقرأ "أُحبُّك في حالاتكِ كلّها" بأن الورد قد تناثر بين الصفحات وتبعثر بين القصائد والكلمات والتعابير المرهفة وأنتشر شذى عطره بين الصفحات.
وجاء استخدام الشاعر لنمط قصيدة التفعيلة "الشعر الحر" منسجماً تماماً مع موضوعة "الحُبّ" حيث حضر الوزن وشاعت القافية مع ميٍل واضح لاستخدام البحور الخفيفة والتفعيلات البسيطة مع القافية الموسيقية ورنينها
الدائم.