حين تتوغلُ الحربُ في أغنيتها

ثقافة 2024/12/04
...

يقظان التقي 




الناس، عاداتها، تقاليدها، بمنطق مجاورة الحرب، وتضمها إليها في الوقت ذاته وتبعدها عن أنساقها وقيمها الإبداعيَّة والحضاريَّة وعن أهدافها وعن لبنان الذي يعرفه اللبنانيون، ضحايا العسكرة وثقافة الحرب والتخريب ومصادرة الحياة وخلفها والاستيلاء عليها كلها.

بنى اللبنايون كثيراً من أحلامهم وخيالاتهم على حكايات وأمثال وقصص مسرح الرحباني وأغاني السيدة الرائعة فيروز، التي شكلت في الخمسينيات والستينيات العصر الذهبي لتبلور الاتجاهات الفنيَّة والشعريَّة، وصارت تلك الأغنية الظواهر التي لا تتكرر، وجزءاً من نسيج حيواتهم اليوميَّة على مدى عقودٍ من السنين حتى اليوم.

كلٌ بنى دويلته الحزبيَّة ومجتمعه المغلق وجغرافيته التعيسة التي أطاحت بكلّ إنجازات البلد، إلا السيدة فيروز صارت هي الدولة والوطن والبيت والسقف والحريَّة (بول فاليري)، الحلم والجذور والحنين والفرح والحزن والاجتماع والسياسة وكل الغناء، السيدة الرهيبة في تقاليد البلد الصغير صارت أكثر من أغنية، وأكثر من فنانة.

فيروز الباقية وجميعهم العابرون ضد كل الأنماط التي تحاول أنْ تقطعهم عن جذورهم ومقدساتهم، لم يظهر منذ الستينيات جيلٌ جديدٌ من الفنانة الشاملة التي تستطيع أنْ تؤثر في المجال المعاصر لبنانياً وعربياً بحجم السيدة فيروز، فنانة لبنان الحلم والجمال والعنفوان، باستثناء فنانة النغم الأخرى السيدة صباح.

فيروز فنانة كاسرة بمجازاتها وموحياتها وظلالها وأسرارها وتأثيراتها، التي تؤدي الحالات والمعانى والصور والمناخات وانسياباتها وطقوسها وتصادماتها على النمط واللغة العالية والجماليَّة التي دفعت بالبعض لتوصيفها بـ “آلهة اغريقيَّة” وبطعم المبالغة ما بعد الحداثيَّة. لكنها فيروز الرومنطقيَّة، حقيقيَّة كما هي في معماريَّة الموسيقى والقصيدة والصوت الرومانسي العميق في صميم اللعبة الرمزيَّة في تميزها الإيقاعي والصوري والجمالي، في ما يعتمل داخل الأغينة وتجاربها الداخليَّة في أليف الحياة اللبنانيَّة، وصورة عن العالم بلغته المتدفقة وأفكار الناس المتداولة.

هذا الصرح الكبير الحامل كل وجوه اللبنانيين وتاريخهم نسج حكاية أخرى في عيد ميلاد فيروز التسعين، الوجه الآخر للحرب الجارية منذ أشهر على الجنوب والبقاع وبيروت، وكلها تدمير للحجر والبناء والحقول وخراب لا يصدق، حين تتوغل بكل ما غنته فيروز عن البيت اللبناني بربيعه وألوانه ومزاهيره وأقماره وشموسه ونجومه. فيتحول مسار الأسطورة الى دمية النغم المهشمة على أرض الآلام والجروحات. مع ذلك، تظلُّ فيروز الملكة المكللّة بالمجد بربيعها الٳنساني الدائم حين تملأ أغانيها البيوت والشوارع، كأنها نثر التفاصيل الفرديَّة والطبيعة والتعبئة النفسيَّة لعشاق صوتها في زمن الأزمات والحرب التي ترفض أغنيتها.

قد يكون إسقاط الحرب على الأغنية الصافية، تؤسس لنوعٍ من القتل لها بطريقة سياسيَّة، العدوان الٳسرائيلي الحاقد لم يبق على الكثير من الحجر والمنازل والطبيعة والشجر. جعل لغة الالغاء هي المسألة، ونصب كراهيته في قلب الأغنية التي رتلّ فيها اللبنانيون تاريخهم وأحلامهم الباقية. وضاع “شادي” الأغنية الفيروزيَّة في ضمير الحرب المستتر مباشرة، أو غير مباشرة، تماماً كما معنى الجمهوريَّة والنظام والسلطة والقانون والمؤسسات بغزوة الحرب الهمجيَّة.

جاءت تسعينيَّة فيروز لتفقد سلطتها المطلقة على بيوت

هذا الصوت هو ضد الحرب بجماله وعنفه وعروبته ولبنانيته وعالميته، نقيض كل ما يجري من خراب. وهنا خطورة الصوت وما يلحق به من ضرر، بعد أن غنّى “القدس” و”راجعون”، وصدح بالحياة والجمال، ولبنان بكل ما عنده من شرق وغرب وأمضى معه اللبنانيون كل لحظاتهم القويَّة. وفي نبرة فيروز التمرد والمقاومة التي سمعناها في أغانيها ومسرحياتها ضد كل أشكال الاحتلال والوصاية.

مغنية وامرأة مميزة في أغانيها رافقت حياة اللبنانيين وترافق كل يوم حياة الشباب العربي، ميلوديَّة غنائيَّة بسيطة / شاعريَّة /غير مركبة، عبرت في تسعينها وروحها الفنيَّة التي لا تزال متدفقة الأجيال. لذلك شهد عيد ميلادها البالغ الإحساس التتويج لسيدة الزمن اللبناني النادرة، تشارك معها الإعلام في كل شيء، في شهرتها/ ذاكرتها، التي لا تزال حاضرة، وذلك المسار الفني الطويل بكل الانطباعات والرسائل الرائعة.

ما في فيروز يشبه الأهل والبيت والجيران، أشياء الطفولة والشعور بالأمان المراهقة والشباب، والأرجح أنَّ الأوضاع الجارية تتمرد عليهم في أوضاعٍ أكثر تعقيداً منها.

فيروز، هكذا، ضاعت بين نشرات الأخبار، والسهرات على أضواء القصف الليلي وتمزق وعزلة ما فرض على اللبنانيين بالنار والفوضى والعبث بعد هندسات الموازنات والضرائب والإفلاس.

والآن حرب غير الحروب التقليدية بين الجنود. وفي غمرة الخسائر الموجعة يسقط المدنيون وينزحون ويجوعون في أكثر من “سفر برلك”، ضحابا الفراق، الانمحاء القاسي، الظلام في فكرة لبنان الأخضر الحلو؟ لقد كانت فيروز حقيقة ملموسة ومرئيَّة قبل الحرب. بعد الحرب صارت غير مرئيَّة. الحلم أُجهض، ولم يحبه أو يَحمِه أحد. سقطت قناطر الدار والعناقيد والهوى والربوع وحدائق العُمر دمرت. حكاية كل حب، مغنية مكة، والقدس، والشام.. تسعة عقود، صوت النهر والسواقي وسهريّات القرى. فيروز هذه، مغنية لبنانيَّة لن تبتعد كثيراً خارج الحدود، شباب أحبها شباب وصباب العرب في جميع العواصم والمدن، في كل الفصول، في شتى المشاعر.

ربما هي فيروز في حياتها الخاصة، حكاية كل حب، مغنية مكة، شجيَّة القدس، صداحة الشام. تسعُونها، اليوم. تسعة عقود، في كل قصيدة لحن. صوت لكل الألحان. أحياناً تبدو وكأنها تغني من أنهار وسواقي القمر، وأحياناً من أعالي البحر، وأحياناً من عشيّات القرى الفقيرة والحالمة.

وفي حياتها الخاصة، كانت نهاد حداد أيضاً سيدة البيوت. أم متكرسة، وسيدة لا يغريها في الخارج أي ضوء من الأضواء. لا في حياة عاصي، ولا بعد غيابه. وثمة مسحة من الحزن لم تفارق الدار التي صنعت الكثير من الفرح في حياة الآخرين. لكن هذه أيضاً أبقتها لنفسها ولكبريائها.

تُسعون سنة بسيطة صامتة أجمل من الشعر.

طوال حياتها الفنيَّة لم تغنِّ فيروز مرة في مطعم بحضور جمهور يأكل ويشرب. بعض الأسماء الكبيرة بدأ الغناء في المطاعم والملاهي. فيروز من البداية وحتى يومنا هذا لا تغني إلا في مسرح، أو في مكان معدّ للغناء فقط، مثلما غنّت في قلعة بعلبك، أو في بترا أو بصرى الشام أو عند سفح الأهرام، والأولمبيا الفرنسيَّة.

في عيدها التسعين، أعترف تملكني شعور بكراهيتها. الأمور ليست مثاليَّة، ولا بملامح جميلة. العائلة اللبنانيَّة ليست بخير. لبنان ليس بخير. دميَّة النغم، كما المزهريَّة كسرت. الحلم اللبناني ليس على شيء ليتحرك، والأغنية الملتزمة بخطر. هي الشيء الأقل رواجاً في هذا العالم البغيض، وغير المؤمن في العمق، ولا تربطه تأملات عميقة مع المضامين الطيبة في الأغنية والشعر، ولا الرسائل الحميمة. إلا إذا كانت فيروز الجديدة مورد الحب لاتجاهات جديدة من الرومنطقيَّة المتأخرة عند الأجيال العربيَّة الناشئة في مرحلة وأخرى من المسرح الرحباني في كتاباته الإبداعيَّة التي تحتل مساحة مرموقة من الفكرة الجماليَّة.

ضمن هذه المناخات تحضر تسعون فيروز بعمرها الغنائي المديد، الحالة الجماليَّة الاستثنائيَّة في الإخلاص والالتزام والصلابة، من أجمل وأرق تجربة غنائيَّة بهالة ملكة، صنو مدينة خصبة الجماليات، التي تكتب اليوم بالنار والهدم وليس بالشعر.