الشفاهيَّة والتفكير الجمعي
صفاء ذياب
ما زال موضوع الشفاهية حاضراً في الدراسات النقدية، لاسيّما في الدراسات الثقافية التي تسعى لفهم المرجعيات المعرفية والفكرية والفنية للنصوص الأدبية، فبعد أن اهتمت ما بعد الحداثة بالهامش، واحتفت بالسرديات الصغرى، التفت الكثير من النقّاد لدراسة النصوص الشفاهية ومن ثمَّ المدوّنة منها، لمعرفة الجذور التي انبنى عليها مفهوما الشفاهية والكتابية، ومن ثمَّ احتلّت دراسة الأدب الشعبي والفولكلور حيّزاً مهماً في دراسات ما بعد الحداثة، لأنَّه كان أدباً شفاهياً بشكل أو بآخر، انتقل من جيل لجيل حتى ضاع اسم مؤلّفه، وبقي طيّعاً وقابلاً للإضافة والحذف حتى تم تدوينه في مراحله الأخيرة.
ما الشفاهية؟
لم يتم تقديم مفهوم واضح للشفاهية في الدراسات المبكّرة التي تناولت الأدب الشعبي العربي، غير أنَّ دارسي هذا الأدب تحدّثوا في العموم عن الشفاهية في تناولهم للحكاية الشعبية والشعر الشعبي والسيرة الشعبية وفنون الأدب الشعبي الأخرى، إلاّ أنَّهم كانوا يقدّمون تصوّراتهم عن الاختلاف بين الشفاهية والتدوين في حدود لغة النص وأصوله الشفاهية والإضافات التي طرأت عليه، وصولاً إلى مرحلة تدوينه في العصور الوسطى من الأدب العربي.
كان كتاب (المأثورات الشفاهية) لـ”يان فانسينا” من الكتب المؤسّسة لهذا المفهوم، ومن بعده توسّع “والتر ج. أونج” في مفهومي الشفاهية والكتابية، وهو العنوان الذي اتخذه لكتابه.
يعرّف فانسينا في كتابه (المأثورات الشفاهية) المأثورات بأنَّها “مصادر تاريخية ذات طبيعة خاصة، وهذه الطبيعة الخاصة مستمدّة من أنَّها مصادر غير مكتوبة مصوغة في شكل يلائم الانتقال الشفاهي، وأن حفظها يعتمد على قوى الذاكرة التي تتمتع بها الأجيال المتعاقبة للجنس البشري”. إطلاق (مصادر تاريخية) على المأثورات الشفاهية محل جدل، فهناك من لا يعدّها مصادر تاريخية، بل يحصر هذه المصادر بالتدوين، إلاَّ أنَّ المتّفق عليه أنَّ هذه المأثورات تعتمد على قوّة الذاكرة من الرواة والجماعة الشعبية في الوقت نفسه، وهذه الحافظة التي يجب أن يتمتّع بها رواة المأثورات الشفاهية تختلف من راوٍ لآخر، فضلاً عن المقام الذي تروى فيه أو يتم تداولها، لهذا قسّم فانسينا هذه المأثورات؛ متّفقاً مع رأي بيرنهيم E. Bernheim، إلى “السير، والنوادر، والأمثال، والقصص التاريخية الشعرية. ثمَّ يميّز [بيرنهيم] بعد ذلك بين الحكايات المنقولة مباشرة عن شاهد عيان، وبين كل المصادر الأخرى التي تتكوّن من الأقاويل أو الإشاعات المنقولة بطريق غير مباشر كمجرد أخبار، والتي يجب أن تُعامل كما لو كانت سيراً، ومهما يكن من شيء؛ فإنه يستثني الحكايات التاريخية بسبب الدور الذي يلعبه الإلهام الشعري في زخرفة المادة”. وبهذا التقسيم، فإنَّ بيرنهيم يحيلنا إلى نوعين من هذه المأثورات:
1 - مأثورات منقولة مباشرة عن شاهد عيان.
2 - مأثورات منقولة بشكل غير مباشر.
كما أنَّه استبعد الحكاية التاريخية من هذه المأثورات لأنَّ الخيال يدخل في إعادة صياغتها- بحسب ما يرى-، وبهذا نكون أمام إشكالية في الأدب العربي، فأغلب السير الشعبية؛ إن لم تكن جميعاً، حكاية تاريخية كان التخييل جزءاً كبيراً من صياغتها.
وعلى الرغم من عدّ فانسينا المأثورات الشفاهية مصادر تاريخية ذات طبيعة خاصة، يعود مرّةً أخرى للتأكيد على أنَّ هذه المصادر لا يمكن عدّها تقريراً صادقاً عن الأحداث، إذ إنَّ “المأثورات الشفاهية- بالمعنى الدقيق للمصطلح- مجهولة المصدر دائماً، ولا يمكن الاعتماد عليها باعتبارها تقريراً صادقاً عن الأحداث أبداً، لأنَّه لا يعرف شيء [كذا] عن شهود العيان الأوائل، أو أولئك الذين نقلوها فيما بعد”. ومثلما أشار دارسو الأدب الشعبي إلى أنَّ السيرة الشعبية؛ على سبيل المثال، لا يمكن عدّها تاريخاً بالمعنى العلمي للتاريخ، لكن يمكن دراستها في حقل التاريخ الاجتماعي من خلال معرفة المعطيات الاجتماعية والتاريخية في الوقت الذي تُروى فيه هذه النصوص، وتأثير البيئة وثقافة المجتمع على تلك النصوص. لهذا ينقل فانسينا اعتقاد (فان فلسن Van Velsen) بأنَّ “المأثورات الشفاهية تصبح ذات معنى إذا نظر إليها في ضوء البناء السياسي والاجتماعي الحالي، وأنَّ المأثورات ميّالة حتماً للانحياز وأنَّ الانحياز متأصّل في السياق الاجتماعي والسياسي. وهذا يعني أنَّه ليست هناك حقيقة مطلقة فيما يتعلّق بالمأثورات الشفاهية. ومع ذلك فقد تكون بعض المأثورات الشفاهية دقيقة في مجموعها”. لم يتّفق الباحثون على كون المأثورات الشفاهية مصادر تاريخية، لكنَّ هناك اتفاقاً على أنَّ هذه المأثورات غير دقيقة تاريخياً لأسباب تتعلّق في الانتقال من زمنٍ لآخر، ومن راوٍ لآخر، ومن ثقافة لأخرى.
في كتابه (ينابيع اللغة الأولى)، يحدّد الناقد سعيد الغانمي أربع نقاط للصيغ الجاهزة في الشفاهية العربية قبل الإسلام وما تلا المدّة التأسيسية للأدب العربي، مبيناً أنَّ هذه الصيغ تنطوي على عناصر أربعة: “الأول: أنَّها كلمات، والثاني: أنَّها تستخدم استخداماً مكرّراً، والثالث: هو الشروط المادية لاستخدامها، والرابع: هو التلازم بين تكرار هذه الكلمات والصيغ وتكرار الأفكار التي تعبّر عنها”. ولا يقصد الغانمي بالصيغة الجاهزة أن تكون العبارة ذاتها مكرّرة، “بل ينتظم الأدب الشفوي بكامله في شبكة مطّردة من العبارات الجاهزة التي تستدعي بعضها بعضاً، ومن ثمَّ فإنَّها تشكّل بالتالي تغييراً لعلاقات اللغة بالفكر في هذا الأدب الشفوي”. وهذا الأدب الذي يتحدّث عنه الغانمي أدب سبق انتشار الكتابة، لاسيّما في تأليف شعر ما قبل الإسلام وتداوله.
البحث في مفهوم الشفاهية وتشكّل مأثوراتها بحث في الطرائق التي يمكن أن ينشأ الوعي من خلالها، وهذا [الوعي] بدوره سيعيد بناء الذاكرة التي تحفظ النصوص الشفاهية ويساعد على حفظها وإعادة إنتاجها، وبحسب ما يرى إرك هافلوك- ضمن كتاب الكتابية والشفاهية-، فإنَّ أسرار الشفاهية “لا تكمن في سلوك اللغة كما هي مستعملة في الأخذ والعطاء أثناء المحادثة، ولكن في اللغة المقصود بها تخزين المعلومات في الذاكرة. هذه اللغة يتعيّن عليها أن تلبّي مطلبين: يجب أن تكون لغة إيقاعية ويجب أيضاً أن تكون لغة قصصيّة. كما أنَّ نحو هذه اللغة ينبغي أن يكون دوماً نحواً حدثاً من الأحداث أو عاطفة أو انفعالاً من الانفعالات، ولكن ليس مبادئ أو مفاهيم. وأبسط مثال على ذلك، أن هذه اللغة لا يمكن أن تقول إنَّ الأمانة هي أفضل سياسة، وإنَّما تقول إنَّ (الرجل الأمين تزدهر أحواله دوماً)”. فيفترض هافلوك في الشفاهية أن تكون لغتها إيقاعية وقصصيّة، يعطيان للغة الشفاهية سهولة في التداول، ويمنحانها صيغاً جاهزة يمكنان الذاكرة من حفظ نصوصها.
سمات النص الشفاهي
من جانب آخر، يخلص والتر ج. أونج في الكتاب نفسه إلى أنَّ أهم سمات الشفاهية ونصوصها، تكمن في النقاط الآتية:
1 - عطف الجمل بدلاً من تداخلها.
2 - الأسلوب التجميعي في مقابل التحليلي.
3 - الأسلوب الإطنابي أو (الغزير).
4 - الأسلوب المحافظ أو التقليدي.
5 - القرب من عالم الحياة الإنسانية.
6 - لهجة المخاصمة.
7 - الميل إلى المشاركة الوجدانية في مقابل الحياد الموضوعي.
8 - التوازن.
9 - موقفية أكثر منها تجريدية.
هذه السمات يمكن أن تنطبق جميعاً على النصوص الشفاهية، أو أنَّ بعضاً منها ينطبق على نص ولا ينطبق على نصٍّ آخر. وفي دراسته، يشير أونج إلى أنَّ “الشاعر الشفاهي لا يتعامل مع النصوص أو في إطار نصي. بل هو يحتاج وقتاً يدع فيه القصة تغوص إلى مخزونه من الموضوعات والصيغ، وقتاً تصبح فيه القصة جزءاً من نفسه. وفي استعادة القصة وإعادة روايتها، لا يكون هذا الشاعر بأيِّ معنى كتابي قد (حفظ) الأداء الوزني للقصة من خلال رؤية مغنٍ آخر- وهي رواية تكون قد ذهبت إلى الأبد في أثناء عكوف المغني الجديد على القصة من أجل روايته الخاصة. فالمواد الثابتة في ذاكرة الشاعر هي بمثابة طوف من الثيمات والصيغ التي منها تبنى كل القصص على أنحاء مختلفة”. فالشاعر الشفاهي [بحسب تعبير الأدب الشعبي، وهو هنا يعني راوية الحكاية أو السيرة الشعبية] لا يحفظ حكاياته التي يرويها حفظاً حرفياً، وهو ما بيّنه فانسينا، بل يعمل على معرفة الثيمات المشكّلة للحكاية وإطارها العام، وهو من يقوم بإعادة إنتاجها بلغته وأسلوبه وطريقة روايته لها، لهذا نجد اختلافاً في نص الحكاية نفسه حين تُروى من رواة مختلفين، وهذا الاختلاف يأتي من بيئة كل راوٍ وثقافته وما يريده من تلك الحكاية أيضاً، لأن الحفظ الشفاهي؛ حرفياً كان أو غير حرفي، يخضع “للتغير نتيجة للضغوط الاجتماعية المباشرة. ذلك أنَّ الرواة يسردون ما يطلبه الجمهور، أو ما سوف يسمحون به”. وهذا ما أشار له أغلب دارسي الأدب الشعبي العربي أيضاً قبل كتاب أونج الصادر في العام 1982 بنسخته الإنكليزية، فلا يمكن مقارنة الذاكرة الشفاهية مع الذاكرة النصيّة، لأنَّ الاثنتين مختلفتان تماماً، إذ إنَّ “الذاكرة الشفاهية يدخل فيها مكوّن جسدي عالٍ. وقد لاحظ بيبودي أنَّ (الإنشاء التقليدي في كلِّ أنحاء العالم وفي كلِّ مراحل الزمن... يرتبط بنشاط اليد)”. فمثلما هناك قوالب جاهرة لبعض الجمل الشفوية، وبعض التلازمات اللفظية التي تساعد الراوي على وضع حدود للنص الشفوي، فإنَّ هناك حركات أيضاً تعينه على ضبط إيقاع النص وكيفية انتقاله من فقرة إلى أخرى. وفي الوقت نفسه، فإنَّ هذه الصيغ الجاهزة تساعد على ربط الراوي بجمهوره في ذات الوقت، فضلاً عن أنَّها تساعده على شد انتباه الجمهور ليجعله داخل بنية الحكاية، وليس مستمعاً فقط.
فنحن هنا أمام قطبين مرتبطين ببعضهما، لا يمكن الالتفات لأحدهما من دون الآخر: الراوي والجمهور، الراوي بصوته وحركاته، والجمهور بالانتباه له وتفاعله معه. ولصوت الراوي ونطقه بالكلمات ارتباط بوحدة الجمهور وتفرّقه بحسب أونج، مبيناً أنَّ الكلمة تشكّل “هذه الكائنات في مجموعات ذات وشائج موحّدة. وعندما يخاطب متكلم ما جمهوراً فإنَّ أفراد هذا الجمهور يصبحون في العادة وحدة، سواء فيما بينهم أو مع المخاطب. وإذا طلب المتكلّم إلى الجمهور أن يقرأوا ورقة يوزّعها عليهم فإنَّ وحدة الجمهور تتلاشى، إذ يدخل كلّ قارئ في عالم قراءته الخاص به، ولا تستعاد وحدة الجمهور إلاَّ عندما يبدأ بالكلام الشفاهي مرَّةً ثانية. فالكتابة والطباعة تعزلان. وليس ثمة اسم جمع أو مفهوم جمعي للقرّاء في مقابل (الجمهور)”. هذا الارتباط بين الكلمة المنطوقة والجمهور هو ما جعل دارسي الأدب الشعبي يُطلقون مصطلح (الجماعة الشعبية) على جمهور المستمعين للحكي الشعبي، ومن ثمَّ فإنَّ أونج عمّق هذا المصطلح بتفريقه بين مفهومي (الرواية) و(القراءة)، فالأول شفاهي يُلقى على جمهور من الناس، أو يتناقله الجماهير شفاهياً، والثاني كتابي، لا يمكن أن يوجد من دون التدوين.
ومن ثمَّ ينقل أونج ملاحظة فرديناند دي سوسير الذي يرى “أنَّ للكتابة (فوائد، وعيوباً وأخطاراً) متزامنة جميعاً. ولكنَّه مع ذلك كان ينظر إلى الكتابة باعتبارها نوعاً من مكمّلات الكلام الشفاهي، وليس باعتبارها أداة تحويل للتعبير اللفظي”. فلم تكن الكتابة من وجهة نظر سوسير، وهو ما يراه أونج أيضاً، إلاَّ مكمّلاً من مكمّلات الشفاهية، غير أنَّ هذه العلاقة لم تلبث طويلاً، حتَّى بدأ النص المكتوب يحلّ شيئاً فشيئاً محل النص الشفاهي، فأصبح هذا النص هو المرجع حتَّى وإن كان في أصله نصّاً شفاهياً. فالكتابة توسّعٌ، بحسب رأي أونج، فضلاً عن أنَّه يرى أنَّ الكتابة نفسها لا تستغني عن الشفاهية، فالكتابة “(نظام تصنيفي ثانوي)، يعتمد على نظام أوّلي سابق هو اللغة المنطوقة. فالتعبير الشفاهي يمكن أن يوجد، بل وجد في معظم الأحيان دون أي كتابة على الإطلاق، أمَّا الكتابة فلم توجد قط دون شفاهية”. ويبيّن أونج أنَّ الكتابة لم تحدّ من الشفاهية ولم تختزلها، بل شجّعت عليها، فقد أصبحت منظّمةً لها في مجال الخطابة على سبيل المثال، ويشير أونج إلى أنَّ الأشخاص الذي أخلصوا للكتابة “يجدون صعوبة شديدة في تخيّل ماهيّة الشفاهيّة الأوليّة، أي الثقافة التي لا تمتلك معرفة من أي نوع بالكتابة أو حتى بإمكان الكتابة. حاول أن تتخيّل ثقافة لم يبحث فيها أحد عن أيِّ شيء (بالرجوع إلى مصادر مكتوبة) تجد أن تعبير (بالرجوع إلى مصادر مكتوبة) في الثقافة الشفاهية يعدّ تعبيراً فارغاً من أيِّ معنى. وفي غياب الكتابة، لا يكون للكلمات في ذاتها حضور بصري، حتَّى عندما تكون الأشياء التي تمثّلها بصريّة. إنَّها أصوات، تستطيع أن (تستعيدها) مرَّةً أخرى أو (تتذكّرها) بمعنى إعادة استدعائها Recall. لكن ليس ثمة مكان تستطيع فيه أن تبحث عنها بعينيك. كذلك ليس لها بؤرة تركيز ترى من خلاله، ولا أثر يُتّبع (وهذه استعارة بصرية، تنم عن الاعتماد على الكتابة)، بل ليس لها منحنى سير يرصد. إنَّها مجرد وقائع وأحداث”. يبدو تساؤل أونج هذا بحثاً في صلب الفارق بين الشفاهية والكتابية، فالشفاهية الأولى أنشأت ثقافتها من دون أيّة مرجعية كتابية، لكنَّها مع هذا لم تأتِ من دون مقدّمات ثقافية أسهمت في تكوّنها، ومن ثمَّ يلخّص إرك هافلوك العلاقة بين الشفاهية والكتابية، مبيناً أنَّ هناك أولوية تاريخية للشفاهية تتمثّل في الخبرة الإنسانية، فضلاً عن أولوية لوظيفة اللغة كمخزن على الاستعمال العشوائي، والنقطة الثالثة التي أثارها هافلوك أولوية التجربة الشعرية على التجربة النثرية في تركيبتنا السيكولوجية- وهذا ما قصده سابقاً بإيقاعية اللغة الشفاهية-، ومن ثمَّ أولوية الذاكرة والاسترجاع على الاختراع.
خصائص النص الشفاهي
يعرّف إبراهيم عبد الحافظ في كتابه (دراسات في الأدب الشعبي) الشعر الشفاهي بأنَّه “قصائد غير مكتوبة سواء كان ذلك بسبب أن الثقافات التي تظهر فيها غير كتابية جزئياً أو كليّاً (مثل الثقافات التقليدية الأم في أفريقيا وأستراليا والأقيانوس وأمريكا)، أو بسبب أن الأشكال الشفاهية تحفظها الذاكرة على الرغم من الكتابية التامّة للشعوب. والمجال الدقيق لهذا المصطلح محل خلاف، ولكنَّه يشمل في الغالب الشعر الذي يؤلّف ويؤدّى شفاهياً في الأساس، وذلك الذي وصل إلينا عن طريق التناقل المكتوب مثل بعض الملاحم المبكّرة، ويضم بعض الباحثين إلى الشعر الشفاهي الشعر المتناقل أو المؤدّى عن طريق وسائل التثاقف غير المكتوبة مثل الأداءات الإذاعية أو المنظومات (الأغاني) الشعبية الحديثة”. حديث عبد الحافظ عن الشعر الشفاهي ليس المقصود فيه القصيدة فحسب، بل أي نصٍّ شفاهي يمكن أن يتمَّ تداوله ليصبح نصّاً شعبياً- فالجماعة الشعبية تُطلق على راوي السيرة الشعبية لقب (الشاعر)-، وبحسب عبد الحافظ، فإنَّ النص الشفاهي نصٌّ غير مكتوب، إن وجدت الكتابية قبله أم لم توجد، يتم حفظه وتداوله بين الجماعة الشعبية عن طريق الذاكرة.
ولحفظ هذا النص وتداوله، تفترض الدكتورة نبيلة إبراهيم خصائص تحافظ على وجوده الشفاهي، لأن هذا النص قد ألّف ليروى ويُسمع لا ليُقراً، على حدِّ تعبيرها، فتشير في كتابه (سيرة الأميرة ذات الهمة) “لا عجب أن يشترك في خصائص عامة، كالتكرار وذكر التشبيهات الكثيرة وطريقة تناول الموضوع. فما دامت الحركة تتجدد حول البطل فلا بد أن تتجدّد بشيء من الإثارة حتى ينشط معها خيال السامع وانتباهه. فأما أن يقوم البطل عندئذٍ بمغامرات غريبة يقابل فيها الأهوال، وأما أن يحط طير لينقل نبأ تبدأ على أثره الحركة، وأما أن يحلم أحد أفراد القصة حلماً يفسّره له الآخرون ثم لا تلبث حوادث هذا الحلم أن تتحقق. والقاص مغرم بالإكثار من عنصر الأحلام في القصة، إذ إن الأحلام تعرض حوادث غير مألوفة في الحياة العادية، وهي تخلق إحساساً بالمصير الذي سيلقاه البطل أو الأبطال”. الخصائص التي قدّمتها إبراهيم حول النص الشفاهي عموماً، والسيرة الشعبية تحديداً، كانت مبكّرة في طرحها، وعلى الرغم من أنَّ حديثها كان حول سيرة الأميرة ذات الهمة- وهي نموذج دراستها- غير أن هذه الخصائص تنطبق على السير الشعبية العربية جميعاً، بل الأدب الشفاهي منذ عصر ما قبل الإسلامي وصولاً إلى النصوص الشفاهية المتأخرة. فهذه النصوص تشترك ببنية التكرار، والتشبيهات الكثيرة، والأساليب التي يتم فيها تناول الأحداث. غير أنَّ الأساليب اللافتة في النصوص الشفاهية، ولاسيّما النصوص السردية منها، اعتمادها على العجائبيات والغرائبيات في محاولة لإنقاذ البطل من العقبات التي تواجهه في أثناء رحلاته التي لا يتمكّن من تجاوزها إلاَّ بوجود خوارق للطبيعة. فضلاً عن الأحلام التي لا تخلو منها سيرة شعبية، فهذه الأحلام تكون غالباً بدايةَ مرحلةٍ جديدة من الأحداث، ينتقل بطل السيرة الشعبية من مرحلة إلى مرحلة أخرى بتحقّقها.
وإذا كان التكرار والتشبيهات الكثيرة من خصائص النص الشفاهي، فإنَّ السجع من سمات لغته، يساهم في حفظ النص من قبل الراوي، فيشير الدكتور لطفي حسين سليم إلى أنَّه “لعلَّ التزام الراوي والقاص الشعبي- في سرده المسجوع- كان نتاج مرحلة طابع الملحمة الإنشادي الشفهي في مرحلة سابقة على تدوينها بذات الصيغة، والمتتبع للشكل القصائدي في الملحمة في التزامه قافية موحدة، وكل بيت ذو [كذا]ٍ شطرين متساويين، يدرك حرص القاص الشعبي على الوزن والإيقاع فيها”. وهذا ما قصدناه بمحافظة النص الشفاهي على خصائصه منذ أدب ما قبل الإسلام وصولاً إلى الأدب الشفاهي في مراحله المتأخرة، فالسجع كان من خصائص النثر العربي في عصر ما قبل الإسلام، مثل سجع الكهّان والمراسلات والخطب، وصولاً إلى العصر الإسلامي والعصور اللاحقة، لهذا لم تخرج السيرة الشعبية عن هذا السياق، فجاء نثرها مسجوعاً.