غياتاري سبيفاك تتحدث عن تجربة ترجمتها لـ{علم الكتابة} لدريدا

ثقافة 2024/12/04
...


ترجمة: نجاح الجبيلي




في هذه الأيام، تبدو أيام التفكيك المفعمة بالحيوية قديمة وكأنها بقايا غريبة من عصر آخر، ومع ذلك، فإن دافعها الأساس، وهو تفكيك العلاقة بين النص والمعنى، ونقد التحيُّزات الخفية للتقاليد الفكرية الغربية، متجذر بعمق في الحياة الأكاديمية الحديثة لدرجة أنه من السهل أن ننسى مدى إثارة الحركة ذات يوم.

لقد أعادت مطبعة جامعة جونز هوبكنز تنشيط النقاش العام حول مزايا التفكيكية من خلال الطبعة  المنقحة والمثيرة للجدل لكتاب جاك دريدا عن علم الكتابة “الغراماتولوجيا”، وهو أحد النصوص التأسيسية للتفكيكية. ويحتوي الكتاب على ترجمة محدثة من قبل مترجمته غاياتري تشاكرافورتي سبيفاك.

اليوم، سبيفاك هي نجمة أكاديمية وباحثة غزير الإنتاج و مساهمة فعالة في معهد الأدب المقارن في جامعة كولومبيا. حين بدأت سبيفاك العمل على ترجمة كتاب دريدا لأول مرة، كانت أكاديمية غير معروفة في منتصف العشرينات من عمرها، “هذه الفتاة الآسيوية الشابة”، كما تقول، تحاول الإبحار في العالم الغريب للأكاديمية الأميركية. كانت سبيفاك مترجمة مجهولة. لم تتلق أي تعليم رسمي في الفلسفة، ولم تكن لغتها الأم الإنجليزية أو الفرنسية، لذلك كان مشروعاً جريئاً لترجمة مثل هذا العمل المعقد. لم تقم بترجمة الكتاب فحسب بل كتبت أيضاً مقدمة طويلة خاصة للطبعة والتي قدمت دريدا إلى جيل جديد من دارسي الأدب.

وفي العقود اللاحقة، نجحت سبيفاك في ممارسة العديد من المهن المتميزة، إذ أصبحت باحثة ماركسية رائدة في مجال حقوق المرأة، ثم ساعدت في إطلاق دراسات ما بعد الاستعمار من خلال مقالتها المبدعة “هل يستطيع التابع أن يتكلم”. لكن سبيفاك ليست مجرد مثقفة من برج عاجي، إذ أسست مدارس ابتدائية للطلاب الأميين في موطنها الهند، وقامت بالتدريس لعقود من الزمن. وبطريقةٍ ما، تمكنت من تدريس النظرية النقدية لطلاب الدراسات العليا في إحدى جامعات النخبة في الولايات المتحدة، بينما قامت أيضاً بتدريس التمكين الديمقراطي لأطفال الريف في ولاية البنغال الغربية. نادراً ما كان المزج بين النظرية والتطبيق العملي متكاملاً إلى هذا الحد مع شخص واحد.

وفي هذا الحوار الذي أجراه ستيف بولسن من مجلة “مراجعات لوس أنجلوس للكتب”  تتحدث عن تجربتها في ترجمة كتاب دريدا “علم الكتابة” [الغراماتولوجيا]: 

*لقد أصدرتِ للتو النسخة الجديدة من الترجمة الإنجليزية لكتاب دريدا “في علم الكتابة” بمناسبة مرور أربعين عاماً على صدوره. لماذا نحتاج إلى ترجمة منقحة لهذا الكتاب؟  

**عندما ترجمتُ الكتاب لأول مرة، لم أكن أعرف دريدا أو أفكاره. بذلت قصارى جهدي لتقديم الكتاب وترجمته، وقد لاقى تقديمي له استحساناً كبيراً، وأنا ممتنة لذلك. لكن الآن، بعد حياة مليئة بالعمل مع نصوص دريدا والتفاعل مع أفكاره، أستطيع أن أقدم شيئاً إضافياً للقراء حول هذا المفكر الاستثنائي. لذا، أضفت خاتمة للكتاب، وهي أشبه بتحية للحياة التي عشتها مع النصوص بدلاً من مجرد التعرف على نص جديد رائع.  


*هل تغيّر فهمك لكتاب دريدا خلال العقود الأربعة التي مرت منذ  ترجمتك له؟  

- بالفعل تغيّر. عندما بدأت في الترجمة، لم أدرك مدى نقد الكتاب لـ “المركزية الأوروبية”، لأن هذه الكلمة لم تكن شائعة في عام 1967. دريدا، الذي ولد في الجزائر قبل الحرب العالمية الثانية، واجه الفلسفة الغربية من الداخل بعقل لامع، وكان يتأمل مركزيتها الأوروبية. لم ألتقط هذا الجانب كما أفهمه الآن. كما أنني أدركتُ الخيط الذي يربط النص ليس فقط بكيفية القراءة، ولكن أيضاً بكيفية العيش، وهو ما لم يكن واضحاً لي آنذاك.  


*هل ترين هذا الكتاب أساساً كأنه نقد للفلسفة الغربية؟  

-هذا هو ما يدور حوله التفكيك، أليس كذلك؟ إنه ليس مجرد هدم. إنه أيضاً بناء. إنه علاقة نقدية حميمة، وليس مسافة نقدية. أنت تتحدث من الداخل. هذا هو التفكيك. كان معلمي بول دي مان يقول لفريدريك جيمسون، وهو ناقد عظيم آخر: “فريد، لا يمكنك تفكيك شيء إلا إذا أحببته.” لأنك تفعل ذلك من الداخل، بمودة حقيقية. أنت تقوم بتحويله من الداخل. إنه نوع من النقد بهذا الشكل.


*ما الذي كان يحاول دريدا تفكيكه؟ وكيف كان يعيد تفسير الفلسفة الغربية؟ 


-كان يركز على هيمنتها لقرون دون تغيير، واستبعادها مجموعات كاملة بسبب الخطاب السائد. قال أيضاً رأياً ثاقباً عن الشفوية في أفريقيا: كان بإمكانهم تذكر سبعة أجيال ماضية، في حين فقدنا هذه القدرة. رأى أن الفلسفة الغربية قمعت هذه القدرة بطرق خفية. هناك، “الكتابة” تتم على المادة النفسية المسماة “الذاكرة”. ربط دريدا هذا بفرويد. كان يقول: انظر إلى الواقع بعناية. إنه مشفر بطريقة يمكن للآخرين، حتى لو لم يكونوا موجودين، أن يفهموا ما نقوله. نظر في كيفية قمع هذا في التقاليد الفلسفية.


*لماذا قررتِ ترجمة هذا النص الصعب والمعقّد في وقت لم يكن دريدا معروفاً؟  

لم أكن أعرف دريدا على الإطلاق. كنتُ أستاذة مساعدة في جامعة أيوا عام 1967، وأحاول إبقاء نفسي دائماً على اطلاع. قرأتُ الكتاب بالفرنسية الأصلية وفكرتُ أنه كتاب استثنائي. لم أكن أعتقد أنني سأنجح في تأليف كتاب عنه، فقررتُ أن أترجمه.  


*هل كان لكِ أي تواصل مع دريدا أثناء عملك على الترجمة؟  

-لا، لم أكن أعرفه آنذاك. التقيتُ به في عام 1971 فقط. حين قدم نفسه لي قائلًا: “اسمي جاك دريدا”، وشعرت بالذهول.  


*بدأت العمل على ترجمة كتاب “في علم الكتابة” في أواخر الستينيات. كنتِ آنذاك باحثة غير معروفة، ودريدا كان غير معروف في الولايات المتحدة. لماذا قررتِ أخذ مشروع بهذا الحجم والصعوبة؟  

- بصراحة، لم أكن أعرف من هو دريدا. كنت في الخامسة والعشرين من عمري وأستاذة مساعدة في الجامعة. كنت أحاول البقاء على اتصال فكري. كنت أطلب كتباً من الكتالوج تبدو غير تقليدية بما يكفي لقراءتها. هكذا طلبت هذا الكتاب.


* هل قرأته بالفرنسية الأصلية وقررت أنه يجب أن تكون هناك ترجمة إنجليزية؟  

ليس تماماً. قرأت الكتاب وفكرت أنه عمل استثنائي. في ذلك الوقت، لم يكن هناك إنترنت، ولم يخبرني أحد شيئاً عن دريدا. استاذي لم يكن قد التقى بدريدا عندما تركتُ كورنيل. لذلك فكرت: “أنا امرأة شابة ذكية وغريبة، وهنا مؤلف غير معروف. لن يمنحني أحد عقداً لكتابة كتاب عنه، فلماذا لا أحاول ترجمته؟” سمعتُ أن مطبعة جامعة ماساتشوستس تقوم بترجمات، فكتبت لهم خطاباً بريئاً جداً في أواخر عام 1967 أو أوائل 1968. قالوا لي لاحقاً إنهم وجدوا خطابي شجاعاً ولطيفاً لدرجة أنهم قرروا إعطائي الفرصة. [تضحك.] هذا مضحك جداً، ولكن هكذا حدث الأمر.