عادل الصويري
أعترفُ بمحنةٍ تتجدد بعدَ كُلِّ قراءةٍ مُرَكَّزةٍ في قصائد الشاعر بدر شاكر السياب. عاش عمراً قصيراً، بينما تكفَّلت قصائدهُ بمهمة بعثه من رماد اللغةِ التي احترقَ بنارِها، حتى مع الاختلاف على درجة الاحتراق.
محنتي في قراءة السيّاب، لها نسق ثقافي، يتشكل من سؤال واقع الجماعة الذي عاشه السياب، حيث الإيديولوجيا المتصارعة، والشكل الشعري التقليدي، بما يمنحان الحياة من جرعات تفشي المعايشة السطحية، والانسكاب الفارغ في التاريخ.
(1)
عاش السياب في "الزمن الجمعي"، غير أنه أدرك خطورته على فهمه للشعر، فقرر المُضيّ في مغامرته الشكلانية، حالماً بالعالم المُتحول. ولا أعرف هل كان في مغامرته هذه مهووساً بالريادة والرمزية التغييرية، أم كانت مغامرة خالصة لوجه الفن.
الأكيد أنه انفلت من الواقع الجمعيِّ داخلَ فضاءاتِ النصِّ والرؤية، خارجاً من زمنِ السائدِ إلى زمن الشاعر المغامر الذي يريد من قصيدته أن تنظرُ في مرآتِها، فتنعكسُ لها روحه بعيداً عن أيِّ مؤثِّرٍ آخر، فتُعلنُ في القصيدةِ ذوقَهُ الخاص، وجوَّهُ الخاص.
وقبل أن أصلَ إلى خُلاصةِ الذوقِ الخاص والجوِّ الخاص؛ وجدتني مرتبكاً، حين خلخلتني رؤية أدونيس حين رأى أنَّ قضية الشكل عند السياب لم تبلغ استقلالها الكامل، بما يعني أنها "كانت طاقة مشدودة إلى الوراء، في ما هي تتطلع إلى الأمام". وسبب ارتباكي تجاه هذا التشخيص الأدونيسي أنه يقصد أنَّ الواقع الجمعي لازالَ حاضراً في النصِّ السيّابي، لكنه يستتر خلف الشكل والمغامرة الإيقاعية. وقبل أن أخوض في تأويلات أخرى لرأيه، وجدته يؤكد رؤيته بقوله: "ليس السيّاب جديداً دائماً. وصل إلى طرف العالم القديم، لكنه لم يتجاوزهُ بل ظلَّ عالقاً به".
أدونيس إذن ينفي الحياة الثانية لشعر السياب، لكنَّهُ يُصرُّ على مكوثي في دوّامةِ الشكِّ حين يؤكد مغايرة السيّاب التعبيرية التي يقول عنها: "بدْءاً منها ومعها أخذ ينشأ الشعر العربي الجديد في وسط تعبير جديد". وهذه العبارة برأيي ملتبسة ومخاتلة، وتناقض قوله السابق حول عدم تجاوز السياب للماضي والبقاء فيه، ولا أعرف ما الذي قصده بـ "التعبير الجديد" للشعر العربي الذي بدأ مع مغايرة السياب ومعها. وحتى عندما قسَّم أدونيس الزمن الشعري إلى خارجي وداخلي، معتبراً أنَّ الخارجي هو زمن الواقعي والتاريخي، بينما الداخلي هو الذاتي التاريخي الذي يتجاوز التاريخ؛ فإنَّهُ أوقعنا في ذاتِ الدوّامة؛ لأن اعتبار السياب عالقاً في القديم، وأنَّ طاقته مشدودة للوراء؛ فبذلك يبقى السياب أسيرَ الزمن الشعري الخارجي الذي لم يتجاوز القديم، فما معنى عبارة "التعبير الجديد" يا ترى؟
(2)
قصيدة التفعيلة في ظهورها الأوّل أحدثت لاشك درجةً كبيرةَ من الانحراف عن مسار القصيدة العربية التقليدية، تمثل في زيادة الوحدات الوزنية للجملة الشعرية، بعيداً عن الاشتراطات الخليلية. مع السياب، صارت هذه القصيدة تنفذ إلى الجوهر الشعري الذي بانت منه ملامح الاختلاف والمغايرة. وبالجوهر الشعري تفوقت قصيدة السياب على ما يُعرف بالابتكار الإيقاعي أو الثورة الإيقاعية.
عمق الجملة الشعرية عند بدر شاكر السياب، وانفتاحها التأويلي جعل الدهشة ركيزة مهمة، وماركة مسجلة في تجربته الشعرية القصيرة.
قصيدة السيّاب تولي الهامش عناية استثنائية؛ كونه يغوصُ عميقاً في الجوهر الشعري، بانفتاحه على تفاصيل لم تلتفت لها بلاغة القصيدة التقليدية التي ابتعدت بفخامتها اللغوية عن الهم الإنساني، وهو هَمٌّ لا يُرصَدُ شعرياً إلا من اصطياد تلك الأشياء الصغيرة، غير الجاذبة للاهتمام العادي المترفع عنها، وإجراء بعض التحديثات الأسلوبية عليها.
ولا يمكن الجزم بأنَّ كل الأشياء الصغيرة والتفاصيل المهملة صالحة للتناول الشعري الذي يُراد له المغايرة والابتكار، فالشعر يريد منها ما هو دالٌّ وامضٌ مدهش.
في قصيدته "أمُّ البروم" مثلاً؛ يصطاد بدر شاكر السياب الهوامش ذات الدلالات والخصوصية التي تنتمي للواقع، أو للزمن الخارجي، لكنه يسكبها في مزاج فانتازي:
"مدينتُنا منازلُها رحًى ودروبُها نارُ، يقولُ رفيقيَ السكرانُ دعها تأكل الموتى، مدينتُنا لتكبر تحضنُ الأحياء، تدورُ جماجمُ الأموات من سُكرٍ مشى فينا، علامَ تمدُّ للأمواتِ أيديها وتختارُ". هذه الأجواء القاتمة التي أخذنا إليها السياب في قصيدته، وجعلنا نعيشها؛ إنما هي أجواء عزلته وغربته التي كانت جواز مروره للزمن الشعري الداخلي، الذاتي، الواقعي التاريخي، والمتجاوز الواقع والتاريخ معاً. الزمن الذي ينحت وجوداً موازياً للوجود الأصلي، بل ويعمل على محوه، ويسلبه وجوده.