مسرحيّة الجدار.. نحن أموات أم أحياء؟
وائل الملوك
هل نحن أموات أم أحياء؟ بدءا من هذا السؤال، تمكن حيدر جمعة، وهو مؤلف مسرحية "الجدار" التي عرضت على خشبة مسرح الرشيد لستة أيام ضمن شباك التذاكر من توظيف المونولوجات النفسية التي توثق الوضع الراهن والاختراقات الفكرية المغايرة للمجتمع وللتقاليد العربية والعراقية بشكلها الخاص عبر سرديات بصرية لشخصيات تكشف أثناء حديثها وأدائها عن احتراقها الداخلي ومعاناتها، فيما وضع المخرج سنان العزاوي لمساته الإخراجية عبر صناعة رؤية بصرية معاصرة دفعت بالجمهور تجاه محكمة ذاتية لمحاسبة النفس ضد هذه التساؤلات.
معالجة الواقع
المعاناة التي اغرقت مجموعة من النساء في حكايات مختلفة ويحيط بهم الجدار الأبيض المزخرف بالثقوب من كل مكان- رغم من تعدد الأبواب فيه- لم تكن للخروج بل للدخول.. الدخول الذي كشف عن مطرقة اختل بها الحكم البشري عبر تفرده بالقرارات الشهوانية وتنفيذها، وغياب كلمة الحق والتستر على الباطل، وارتكاب الجرائم من دون رادع، إلى جانب تزايد الشذوذ والرذيلة والفساد، وهنا ندرك أن الشخصيات التي جسدت هذه الحالات كانوا ضحايا شهوات الرجال وشذوذهم النفسي، والمنفذ كانت امرأة شبيهة بالجلاد بوجه "فنطازي"، وحارس الجدار كان رجلا غير سوي ويعاني من هوس الاغتصاب في الطفولة. فنحن أمام عرضا مسرحيا يوثق الواقعية بفلسفة مغايرة الطرح والشكل هدفها المعالجة والحفاظ على قيمة الإنسان وخصوصا المرأة.
الرؤية البصرية
المخرج من خلال 150 دقيقة، اعتمد في البناء الدرامي للشخصيات على الرؤية البصرية لإظهار قوة الفكرة المراد طرحها وحولها إلى مشاهد كي تلامس حواس الجمهور وعواطفه. وفي وقتنا الحاضر يعد هذا الأسلوب من ركائز المسرح الحديث المعاصر الذي يعتمد بشكل كبير على جوهر التفاعل بين المضمون والشكل البصري.
وللتوضيح أكثر، فإن المعروف عن الرؤية البصرية في الكتب الاكاديمية بالمسرح ليست عنصرا مكملا، بل هي أداة استراتيجية لإيصال الفكرة وترك أثر عميق في وعي المشاهد، وكل عنصر بصري حتى وإن كان بسيطاً يمكن أن يصبح جزءا من نسيج معقد يسهم في إبراز قوة الفكرة ويعزز تجربة المشاهدة.
العرض ارتكز على المدرسة الغروتيسكية التي غالبا ما تعكس في موضوعاتها التشوهات النفسية والاجتماعية للإنسان، مع زج بعض أساليب المدارس الأخرى التي تتلاءم مع فلسفة الغروتسيك، كالمسرح التعبيري عبر استخدام المبالغة والتشويه لنقل رسائل عميقة عن الإنسان والمجتمع، والمسرح الرمزي باعتماده على الرمز والخيال في تصوير الشخصيات، فضلا عن الكوميديا السوداء والفودفيل اللذين يمزجان بين المأساة وبعض المشاهد الفكاهية لتقديم رؤية ناقدة للحياة البشرية.
وقد اعتمد المخرج في بعض المشاهد على الطريقة السيميائية التي هي خليط بين المسرح والسينما، على سبيل المثال في مشهد البداية "دخول الحوار والتسارع فيه والتجرد منه بالأداء الايمائي وزج الموسيقى الحية عبر عازفة البيانو، استخدام الاداء الحركي للممثلين وإظهار مشاهد مصورة لاستحضار الماضي للشخصيات".
إن هذا المزج بين الصورة والأداء والتوازن بين المدارس وإظهارها تحت ظل الغروتيسكية تكشف لنا عن مخرج تمكن من أن يدرك النص بحرفية، متقن رسم خطوطه العرضية والطولية في محور الإخراج، عبر اختيار زوايا يتم من خلالها تقديم الحدث الدرامي للجمهور، ففي لحظة تشاهد الممثلة عند ادائها دور "الأم" على سبيل المثال كان قريبا ومباشرا للجمهور، وفي جانب آخر تظهر الممثلة "الراقصة" لإبراز الحركات الجسدية وإضفاء عمق بصري للمشهد، اضافة إلى مشهد "الاحتجاج" وتباين حركة الممثلات بزوايا مائلة بين العمق والتقدم إلى بداية الخشبة.
فنطازيا الشكل
استخدم المخرج من خلال الشخصيات التي ارتسمها المؤلف، شكلاً صورياً مختلفاً عن الواقع المتعارف عليه عبر المكياج برؤية فنطازية، ليس لجميع الممثلات، بل لأفراد، كان الغاية منها اظهار روح أداء الشخصية وما تمتلكه من تشوهات نفسية، والسعي لتحفيز خيال المشاهد من خلال عوالم غير مألوفة وشخصيات خارقة للطبيعة، إلى جانب تصميم مبتكر للملابس والديكور كالجدار الثابت والمتحرك وبعض الاكسسوار الجانبي الملازم للممثلين اثناء الاداء الحركي لدعم فلسفته البصرية المغايرة للواقع المجتمعي الذي نعتاشه، فضلا عن التوزيع المتوازن في أماكن الاسقاط الضوئي "الانارة" والتي هي ضمن عمل السينوغراف د. علي السوداني.
أما الموسيقى، فكان الدور الأبرز لعازفة البيانو وهي أيضا ممثلة، قدمت العديد من المقطوعات العالمية التي رافقت أداء الممثلين، إلى جانب بعض المقطوعات الغنائية التي انسجمت مع مضمون العمل، وكانت من تأليف رياض كاظم. وقد كنت اتمنى أن أسمع من ضمن المقطوعات التي تم عزفها موسيقى تراثية ترافق الاداء والحوار، كون مخرجات العمل وتوثيقها لسلوكيات الفرد غير المتوازنة في المجتمع هي من نفس البيئة العربية والعراقية بالتحديد، وأن هذه المقطوعات لها أثرها عند المتلقي، وخصوصاً أن إحدى الممثلات كانت تمتلك امكانية صوتية رائعة عبر ادائها لصوت كورالي شبيه بما يقدم في السيمفونيات العالمية.
الاداء وصوت الضمير
كشف العمل عن رحلة اداء عالية التكنيك من قبل الممثلات الشابات، كان أشبه بالمنافسة لاظهار القوة، وطرح انفسهن بأنهن يمتلكن المستقبل، أما بالنسبة لمن يمتلكون الخبرة أمثال الفنانة الاء نجم، ويحيى ابراهيم، فقد كانا محور الترابط الدرامي بين مشاهد العمل المسرحي، وتمكنوا عبر مرونة الجسد من تقديم شكل مغاير عن ما تم تقديمه سابقا في أعمالهم الفنية، وهذا يحسب للمخرج سنان العزاوي، لأنني أعلم بأنه واحد من المخرجين الذين لا يقفون مكتوفي الأيدي ويساهمون في صناعة الممثل إن كان مبتدئا ويضيف للممثل إن كان من أصحاب الخبرة.
يبقى السؤال الذي ابتدأت به المسرحية، نحن أموات أم أحياء؟ وتلته مجموعة أخرى من الأسئلة "هل نحن مجرمون؟، وهل نحن بائعو النساء؟". أسئلة تحاور الذات والمشاهد بأسلوب فلسفي مسرحي مغاير، هل ستجد لها آذان صاغية لدى المتلقي والمجتمع، ويتمكن صوت الضمير من انهاء قوى الفساد، وهل سنقف أمام مطرقة الحكم البشري بلا قرارات ومزاجيات متفردة وخصوصا أمام النساء وبقايا ضحايا المجتمع.
معالجات فنية
على خشبة المسرح لا يوجد عمل متكامل بنسبة عالية، وهذا شيء طبيعي ومتعارف، فتعدد المعاناة في مسرحية "الجدار" كان شيء مبالغ فيه ويمكن معالجته، فالاطالة في بعض الأحيان قد تتعب المتلقي، والمختص والباحث يختلف عن المتلقي العادي، ولأن العمل يمتلك رؤية ومعالجة حقيقية لواقع أثر على الفكر المجتمعي، يحتاج إلى معالجة للمدة الزمنية لتحفز المتلقي العادي أكثر من اصحاب الاختصاص، إلى جانب الانتباه لاستخدام لازمة الحوار والتسارع فيه والتي لم تكن متقنه بشكل جيد لدى بعض الممثلين، كما اتمنى اعطاء مساحة أكبر للتجسيد الحركي بأداء منفرد وجماعي في مشهد الختام من بعد ارتدائهم البدلة الموحدة بلونها، وقد أكون متحيزا إلى هذا المضمون لأنني من محبي ومتابعي الأداء الحركي، لكن الفنان علي دعيم من المدربين والمختصين المبدعين بهذا الشأن، ويحتاج وقتاً أكثر للاشتغال على مضمون الجسد وتقديم لوحة احتجاج جماعية أكثر انسجاما مما شاهدناه، وخصوصاً أن لغة الجسد في بعض الأحيان تكون أبلغ من الكلمة.