إليف شافاك: هناك أنهارٌ في السَّماء
مايكل دونكور
ترجمة: فجر محمد
تدور أحداث رواية "هناك أنهار في السماء" لإليف شافاك في بلاد ما بين النهرين القديمة وصولاً إلى لندن المعاصرة، وهي رواية ملهمة ومتعددة المنظورات، ناقشت السياسة وقيمة المياه التي تتزايد ندرتها، وارتفاع مستوياتها عن سطح البحر في جميع أنحاء العالم، واستمرار السياسات المدمّرة والخاصة بآليات التخلّص غير القانوني من مياه الصرف الصحي في الأنهار والبحار. جاء هذا العمل الأدبي ليبين قيمة المياه وأهميتها في الوقت المناسب.
تبدأ الرواية بطرح سحري جذاب، إذ تتبع مسيرة حياة قطرة المطر، منذ تشكلها ثمَّ تجسدها وصولاً إلى تحولها لصور أخرى عبر القارات والقرون. كانت "إليف شافاك" هي الشخصية المحوريَّة في روايتها السابقة "جزيرة الأشجار المفقودة"، إذ مثلت فيها دور شجرة تين ناطقة تتحدث عن التاريخ القبرصي الحديث. لكن الأمر اختلف في رواية "هناك أنهار في السماء".
يبدأ المشهد في بلاد وادي الرافدين القديمة، حيث تسقط قطرة المطر على شَعر الملك آشور بانيبال. الذي كان واسع الاطلاع والثقافة، ويرأس مكتبة استثنائيّة ضمّت ملحمة كلكامش. لقد كان آشور بانيبال يدرك وبقلق الامكانات الجذريَّة لسرد القصص. ثمَّ بعد ذلك ننتقل في الرواية إلى لندن خلال العصر الفيكتوري منتصف القرن العشرين، إذ تتحول قطرات المطر إلى ندفة ثلج. ثمَّ نلتقيها وهي مستقرة على لسان الفتى الصغير آرثر سميث، عندما ولدته أمه وهي امرأة فقيرة تعيش تحت ظروف سيئة، على ضفاف نهر التايمز.
دمج الرموز
يختفي مفهوم قطرة المطر الأولية قليلاً، بينما نتعرّف على شخصية رئيسية أخرى على حافة نهر مختلف.
تنتقل الرواية إلى العام 2014 إذ تظهر نارِين، وهي فتاة ايزيديَّة تبلغ من العمر تسعة أعوام يتمُّ تعميدها بجانب نهر دجلة، برفقة جدّتها التي عانت من ظروف الطقس القاسية. هذه السيدة المسنة كانت معالجة طبيَّة مشهورة وحرصت على اصطحاب حفيدتها إلى معبد لالش، المقدّس لدى مجتمع الإيزيديين، ويقع شمال العراق.
أما البطلة الأخيرة في الرواية، فهي زليخا كلارك، عالمة هيدرولوجيا (علم الماء) مهتمة بفكرة أنَّ الماء قد يكون لديه ذاكرة. ثمَّ تأخذنا الأحداث إلى العام 2018، إذ تنتقل كلارك إلى منزل عائم على جسر تشلسي، مما أثار حيرة والدها بالتبنّي "العم مالك". الذي كان وصيّا على زليخا منذ طفولتها، عندما توفي والداها في حادث ظلت طبيعته الدرامية غامضة ولعدة فصول.
يخبرنا أسلوب شافاك في السرد المتسلسل أن الماء بمقدوره أن يبدأ "بدمج الرموز". وسرعان ما يصبح فضول القارئ الأساسي منصبا على كيفية جمع هذه الأقسام السرديّة المتميزة.
وكما هي العادة في أعمال شافاك الأدبيّة، فإنَّ الشخصيات غير المتوقعة تتحد من خلال أنماط متكررة نابضة بالحياة، ومصادفات مدهشة، وموازاة موضوعيّة محددة بدقة.
يظهر الثور المجنّح، وهو مخلوق هجين أسطوري ورمز يسعد كلا من آشور بانيبال والفتاة الايزيديّة "نارين" والفنان المليء جسمه بالوشوم وذي الشخصية الجذابة الذي يجعل زليخا تشعر بأنها ليست دخيلة وحسب في حياته، بل هي "ضيفة طارئة دخلت من الباب الخطأ في الوقت الخطأ". إنَّ موضوع هجر الوالدين لأبنائهم حاضر في الخطوط الزمنيَّة الثلاثة للرواية. وتتضمن رحلة آرثر سميث من الفقر إلى الثراء، المستندة إلى حياة عالم الآشوريات الفيكتوري جورج سميث، رحلات استكشافية إلى آسيا قادته إلى نارين.
ربما يكون من الممتع أن نجد في نجاح شافاك بجمع موضوعات متباينة حول أفكار مثل جاذبيّة الماضي الطاغي، وكذلك إظهار قوة تحمل الماء.
ومع ذلك، فإنَّ قراءة هذه الرواية أمر صعب. ويعود قدر كبير من هذه الصعوبة إلى الاتساع الشامل سواء على مستوى الجملة أو من حيث البنية العامة في الرواية. من الممكن أن ننظر إلى أسلوب شافاك الوصفي المتشدد على أنّه سخي، إذ يقدم لنا "مجموعة متلألئة من الألوان والأنماط". فنجد في الرواية إيماءات مجازية جميلة ودقيقة، على سبيل المثال تمثل الأمواج "طيات" أما تعبيرات الوجه القلق فتشبهها خطوط "التجعدات" إلى حدِّ الذعر. ولكن هناك أيضا الكثير من الشرح والتوضيح، ما يعيق التواصل المستمر بين القارئ والعوالم والأزمنة المتنوعة التي تدعو إليها الكاتبة.
هناك وفرة مفرطة أيضا في تنوع أقسام الرواية التي يتمُّ فيها عرض الأبحاث حول الكتابة المسماريّة، أو علم الأوبئة، فضلا عن الجغرافيا الاجتماعية لمدينة لندن. كذلك الحوار الذي دار في العمل الأدبي، فهو أيضا لم يكن ناجحا. اذ تظهر الفتاة الايزيديّة نارين على نحو يثير النفور وغير مقنع.
وفي نقطة تحول مهمة لعلاقة نارين بزليخا تقول الفتاة الصغيرة: "أعتقد أن ما يمثله الماء بالنسبة لك، إنّه يمثل التاريخ بالنسبة لي، وهو لغز عظيم يصعب فهمه، شيء أكثر أهمية من حياتي الصغيرة، ومع ذلك، وعلى مستوى ما، فهو أمر شخصي للغاية. فهل هذا أمر منطقي؟.
صور مفجعة
هناك نبض عاطفي يجري عبر كلام الشخصيات إذ يعلن أحد المحسنين الطيبين لآرثر: "إنّ الكلمات مثل الطيور، فعندما تنشر الكتب فإنك تطلق سراح تلك الطيور المسجونة ولا تعرف أبداً من ستصل إليه هذه الكلمات، ومن ستستسلم قلوبهم لأغنيتها العذبة".
وتفقد المقارنات، التي لا تنتهي والمتعلقة بالمياه، سحرها مع استمرار ملحمة آرثر ديكنز ورايدر هاجارد في "الشرق الأدنى" (مصطلح يستخدمه علماء الآثار والجغرافيا والتاريخ، ليشيروا إلى منطقة الأناضول، والهلال الخصيب- المترجمة)، وبينما تشرع نارين وجدتها في رحلة حج محفوفة بالمخاطر تقول: "بعض الناس مضطربون كالأنهار، وربما ستكون النساء أيضا مثل تلك الأنهار؛ قادرات على إعادة التكيّف والتشكّل. وتتابع قولها: "وتثير الأسئلة؛ موجة أخرى غيرها، مثلما يترك سمك الشبوط خلفه إكليلا من خطوط الماء.. عندما يقفز إلى مكان آخر".
إنَّ إحدى المخاوف المتعلقة برواية كهذه متعددة المنظورات، هي أنّه ربما تطغى إحدى القصص على الأخريات. فعلى سبيل المثال إذا أخذنا قصة زليخا نجدها تخلو من قوة العاطفة والشكل المميز وليست مرضية بشكل كبير. إنَّ حلَّ قصّتها والذي يتقاطع مع الحبكة الدرامية الخاصة بنارين يتجه نحو الاضطراب وعدم الوضوح.
أما قصة آرثر ومخاوفه هو وزليخا بشأن استعادة الأعمال الفنية المنهوبة والتضحيات التي قد يقدم شخص ما على القيام بها مدفوعا بالهوس العلمي، فهي أكثر إثارة للاهتمام. لكن تسليط الضوء على الثقافة الايزيدية والاضطهاد الذي تعرضت له، هو الهدف الأوضح في الرواية.
بعد نحو ثلاثة أرباع الطريق، نرى صورة مفجعة للعائلات الإيزيدية الهاربة من نيران مسلحي "داعش" الإرهابي: "أفواج لا نهاية لها من البشر.. أجساد ممزقة تتدافع ضد الجاذبيَّة.. أمهات يمسكن بأطفالهن، ونساء حوامل يحاولن حماية حياتهن وأجنتهن، وأطفال وسط حالة من الذهول والاضطراب.. يمشون بصمت، وهم خائفون لدرجة البكاء". ومن الصور الأخرى التي تظهرها الرواية امرأة مسنة تتوسل لعائلتها أن يتركوها تموت في الطريق. كلّ هؤلاء بالكاد يستطيعون جرَّ أنفسهم كأنّهم أعجاز نخل خاوية، لا ظل حولهم فيما تتصاعد الحرارة من الأرض كمنظر السراب لتشكل خطا من الأشباح. إنّها صورة مروعة للتطهير العرقي، ولا شكّ أنّها تثير غضبنا وانزعاجنا وتحرّك مشاعرنا. ولكن من المؤسف أنّ الإفراط في التعبير عن المشاعر بأماكن أخرى يعني أن هذه النغمة الحزينة قد طغت على الرواية بشكل مؤسف.
عن صحيفة الغارديان البريطانية