إدوارد سعيد.. أدب المقاومة
ترجمة وتقديم: د. نادية هناوي
يرى ادوارد سعيد أنَّ ما يميز الفلسطيني هو تمسكه بهويته، وتتضح أبعاد هذا التمسك على الصعيدين السياسي والأدبي. ولقد ظلت المقاومة تعبيرا حقيقيا عن عمق الوعي بالهوية. ويمثل سعيد على ذلك بقصيدة "بطاقة هوية" لمحمود درويش، ويحللها تحليلا أدبيا يضعه على طريق التحليل السياسي للكيانات السياسية التي اتخذت من المقاومة ميدان عمل لها. وفي مقدمة هذه الكيانات منظمة فتح، ممثلة بزعيمها ياسر عرفات. لكن سعيدا يأخذ على هذه المنظمة مآخذ غير قليلة، منها استنادها إلى الأسس الناصرية ومنها أنها براغماتية، تخصص وقتاً كبيراً للمناورة والتكتيك.
ولعل قصيدة "خطاب السلام" لمحمود درويش تعكس هذا كله بسبب ما فيها من متضادات كثيرة، ومن ذلك قوله: "سأجنح للسلم إن جنحوا للحرب/ سأجنح للغرب إن جنحوا للغروب/ سأجنح للسلم مهما بنوا من حصون ومهما أقاموا/ على أرضنا ليعيش السلام".
ويمضي ادوارد سعيد مستعرضًا صعود منظمة التحرير الفلسطينية إلى الصدارة في القسم الثالث من المبحث الثالث من الفصل المعنون "نحو تقرير المصير الفلسطيني" ضمن كتابه "مسألة فلسطين" 1980 فيقول: ازداد التوتر ما بين الفلسطينيين والعرب الآخرين منذ عام 1967، وبدا يظهر في أشكال غريبة مثل المكانة الدبلوماسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والاكتشاف المدوي للفلسطينيين، وتراجع الاهتمام النسبي بالقضية العربية الأولى. وبالمثل، فإن المؤسسات الفلسطينية احتوت هي نفسها على تناقض في استقلالها الذاتي الفلسطيني. وعلى الرغم من الطرد الدوري للفلسطينيين من دولة عربية إلى أخرى، فان دعم الدول العربية للقضية الفلسطينية لم يبد أنه يتضاءل. ورغم كل شيء، لا يبني الفلسطيني حياته خارج فلسطين؛ فهو لا يستطيع أن يتحرر من فضيحة نفيه التام؛ وتعيد مؤسساته تكرار حقيقة نفيه. وهذا ينطبق أيضًا على الفلسطينيين الذين يخضعون الآن للسيطرة الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعلى أولئك الذين يقيمون في إسرائيل. وكل إنجاز فلسطيني إنما يعاني من حقيقة متناقضة، وهي أن أي بقاء خارج فلسطين هو مهدد في جوهره بسبب عدم ديمومته أو استقراره، لافتقاره إلى إرادة سيادية فلسطينية حقيقية بشأن مستقبل الفلسطينيين رغم النجاحات الرمزية الاستثنائية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
الاضطهاد السياسي
إن كل إنجاز يخاطر بفقدان هويته، ويخاطر بأن يتم امتصاصه في عمومية المجتمع العربي، كما أن حرية منظمة التحرير تتعرض باستمرار للتضييق من قبل الدول العربية. وعلى العكس، يمكن تفسير كل إنجاز فلسطيني كنوع من النقد المحدد للمجتمع العربي العام، الذي تعلم أن يتعايش مع نتائج الهزيمة، باستثناء العواقب الكبرى للهزيمة، والمتمثلة في هذه الحالة بالفلسطينيين. ونتيجة لذلك، يتعالق جزء كبير مما يفعله الفلسطينيون وما يفكرون فيه بهويتهم الوطنية. أتردد في وصف هذا بالاستبطان، لأنه لم يكن مجرد مسألة فحص ذاتي، بل كان إلى حد كبير سؤالًا سياسيًا من الدرجة الأولى.
من ناحية أخرى، فإن المعاناة الخاصة والصعوبات الملموسة لكونك فلسطينيًا قد شغلت بال كتابنا جميعا ووجهت مواهبهم، إلى حد أن الأدب العربي (الذي لا يملك تقليدًا علمانيًا واسعًا للكتابة السيرية أو الاعترافية) يفخر الآن بنوع من الكتابة الفلسطينية المعروفة بـ "أدب المقاومة"، ويعني الكتابة باتجاه تأكيد الذات ومقاومة التهميش والاضطهاد السياسي، وما إلى ذلك. وإذا كان هناك شيء يمكن أن يُطلق عليه قصيدة وطنية كتبها فلسطيني، فسيكون من دون شك قصيدة محمود درويش القصيرة "بطاقة هوية".
القوة الغريبة لهذه القصيدة الصغيرة تكمن في أنها، في الوقت الذي ظهرت فيه في أواخر الستينيات، لم تكن تمثل الفلسطيني بقدر ما كانت تجسده، فقد تم تقليص هويته السياسية في العالم إلى مجرد اسم على بطاقة هوية. أخذ درويش هذه الحقيقة وقرأها كما لو كانت من البطاقة، وسعى لتضخيمها، وأعطاها صوتًا من دون أن يكون قادرًا على فعل ما هو أكثر من ذلك. القصيدة بأكملها تحكمها صيغة الأمر "سجِّل!"، التي تتكرر دوريًا، كما لو كانت موجهة إلى موظف شرطة إسرائيلي لا يمكن مخاطبته إلا في الإطار المحدود الذي توفره بطاقة الهوية، لكنه يُذكِر بأن لغة البطاقة لا تنصف تمامًا الواقع الذي من المفترض أن تحتويه. السخرية حاسمة في قصيدة درويش. وتبدأ القصيدة على النحو الآتي:
سجِّل أنا عربي
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانية
وتاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب
وبعد بيتين، يقول:
سجِّل
أنا عربي
أنا اسم بلا لقب
صبور في بلاد كل ما فيها
يعيش بفورة الغضب
أما الجزء الأوسط من القصيدة فينصب على تسجيل الأنساب الشخصية للراوي، وهي تعداد للمصائب والخسارات، لكن القصيدة تنتهي بما سيصبح من الثيمات النموذجية في الأدب الفلسطيني خلال سبعينيات القرن الماضي: وهي ثيمة بروز الهوية الفلسطينية.
اذن !
سجِّل
برأس الصفحة الاولى
أنا لا أكره الناس، ولا أسطو على أحد
ولكني... إذا ما جعت، آكل لحم مغتصبي
حذار... حذار... من جوعي ومن غضبي
يظهر في قصيدة "بطاقة هوية"، تهديد ببروز الهوية الفلسطينية؛ وبعد بضع سنوات سيصبح هذا الواقع الأكثر تكراراً في الحياة السياسية العربية، ليس كتهديد بل كحضور، وغالباً هو أمل. ومن المهم أن أشهر روائي في العالم العربي، نجيب محفوظ - كانت رواياته دائماً تحمل تفاصيل مصرية عميقة - جعل بروز الهوية الفلسطينية ذروة روايته (حب تحت المطر) 1973 وهي تتناول مصر في "زمن الـلا حرب واللاسلام"، وتقدم لنا في المشهد الأخير، المقاتل الفلسطيني أبو النصر الكبير (والد النصر العظيم)، الذي كانت رؤيته للمبادرة الأمريكية الأخيرة، قد أبهرت وحيّرت الشخصيات المصرية المتوترة، أنه ينظر للأحداث الجارية نظرة طويلة الأمد. وفي إشارة ساخرة، كان محفوظ يعبّر عن أمرين في آنٍ واحد: كيف أن الفلسطينيين المسلحين اكتسبوا فجأة دور المتحدثين الثوريين باسم العرب، وكيف أن الوعود والخطابات الثورية باتت أشبه بالسخرية من ذاتها. كان والد النصر لا يزال مجرد أبٍ على الورق، رغم أن محفوظ لم يحاول التقليل من شأن الحقيقة (ولا كان يمكن لقرّائه ذلك) فأي حساب سياسي الآن يجب أن يشمل الفلسطينيين.
مفارقة أخرى في رواية محفوظ، تماماً كما في العالم العربي في أوائل السبعينيات، هي أن الهوية الفلسطينية كانت قد ظهرت بقوة خارج فلسطين نفسها. يعيش أبو النصر، المقاتل الفلسطيني في رواية محفوظ، في القاهرة وليس في الناصرة أو نابلس. وبقدر ما كان معروفاً، فإن حياة درويش داخل إسرائيل "ببطاقة الهوية" كانت غير مرضية وغير سعيدة كما كانت من قبل. حتى عام 1975 أو 1976، كانت جاذبية الفلسطينيين في المنفى تطغى على الفلسطينيين العرب داخل إسرائيل. وكان بروزهم مهماً لمفارقاتهم الأساسية بقدر ما هو سجل لإنجازاتهم الملموسة، دعونا ننظر إليها الآن.
منظمة التحرير الفلسطينية
حسب معرفتي، لا يوجد أيّ تفسير تحليلي شامل ومقنع أو سرد منطقي واضح يشرح خطوة بخطوة كيف تحول الفلسطينيون في المنفى، من لاجئين، إلى قوة سياسية ذات أهمية كبيرة. لكن هذا ينطبق على جميع الحركات الشعبية التي تبدو أعظم من مجموع عناصرها. أعتقد أن مسلسل التحول الفلسطيني يبدو في ظاهره بسيطاً بشكل مضلل؛ فقد بدأت حركة "فتح" عام 1965 بعملية صغيرة داخل إسرائيل. وبعد ذلك، زاد عدد التنظيمات الفلسطينية المسلحة، كما زادت وتيرة الاشتباكات العسكرية المهمة مع الكيان الإسرائيلي وداخله.
إلى أن جاء مارس 1968، كانت الجهود الفلسطينية تُعتبر جزءاً من السياق القومي العربي العام، خصوصاً التطور الناصري. وفي مارس 1968، خاصة بعد حرب يونيو 1967، اكتسبت الحركة الفلسطينية مكانة جديدة سياسياً ورمزياً، كانت قد ميزتها عن السياق العربي الأوسع.
وتأتي أهمية هذا التاريخ من كونه شهد أول معركة بعد 1967 وبعد 1948 بين القوات النظامية للكيان الإسرائيلي، التي عبرت نهر الأردن لمهاجمة بلدة فلسطينية تدعى "الكرامة" داخل الأردن، وبين القوات الفلسطينية غير النظامية. خاض المقاتلون الفلسطينيون المعركة طوال يوم كامل مدعومين لاحقاً من الجيش الأردني، إلا أن الرواية الفلسطينية تقول إن القتال الرئيس كان بين الإسرائيليين والفلسطينيين. لم يكتفِ المدافعون عن بلدة "الكرامة" بالبقاء والقتال، بل ألحقوا أضراراً كبيرة ووقع العديد من الخسائر في صفوف دبابات الكيان الإسرائيلي التي اعتادت، كما حدث في قرية السموع بالضفة الغربية، على التوغل دون مقاومة، وتدمير الممتلكات، وقتل العرب، والخروج دون أذى يُذكر.
كانت "الكرامة" بداية مرحلة النمو السريع للحركة الفلسطينية، حيث تدفق المتطوعون من مختلف أنحاء العالم العربي، وخلال عام أصبح الفدائيون الفلسطينيون قوةً لا يمكن تجاهلها في الأردن. لكن خلال هذه المرحلة، تشكلت احد المعالم الرئيسة التي أشرت إليها سابقاً وهي تناقض دائم بين توجهين رئيسين لمنظمة التحرير الفلسطينية: الأول ثوري يسعى للتحرير، والآخر يبدو أقرب لبناء دولة عربية مستقلة (الاستقلال الوطني). كلاهما كانا نتاجين ضروريين للوضع الفلسطيني المتناقض الذي أتحدث عنه داخل هذا الكتاب.
نظرياً، لا ينبغي أن يتعارض الاتجاهان، ولكن في سياق الهوية الفلسطينية، كانا في صراع مع بعضهما بعضا. وحتى عندما كان يتم اتخاذ خيار واضح، لم تكن المشاكل التي أثيرت بين البديلين لتزول. لأن الفلسطينيين حصلوا على كمية كبيرة من الأسلحة وبدؤوا بسرعة في تنظيم أنفسهم في مجموعات سياسية وعسكرية، ولأن هذا حدث بالطبع ليس في فلسطين، بل في دولة عربية شقيقة. بدا الفلسطينيون مقاتلين جددا، وكأنهم يمثلون تحدياً للسلطة المركزية للدولة المضيفة. ومع مرور الوقت، أصبح من الواضح أن حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم قد تفاوض على الهدف الأصلي المتمثل في إقامة دولة على جزء من فلسطين، بينما كانت منظمة التحرير الفلسطينية تدير بشكل غير رسمي دولةً للفلسطينيين داخل دولة عربية مضيفة. وتسببت هذه "الدولة"- أولاً في الأردن ثم لاحقاً في لبنان- في تصادم مع الدولة الأكبر.
من ناحية أخرى، تمثلت القوة السياسية والأيديولوجية الكبرى للحركة الفلسطينية أولاً في قدرتها على جذب كل عنصر تقدمي تقريباً في المنطقة، فـ"الفلسطيني" أصبح، بمعنى ما، مرادفاً للجدة والتجديد بمعناه الإيجابي، وكذلك مرادفاً للسياسة. ولا أظن أن ثمة مبالغة في القول بأن كل حركة سياسية أو تيار فكري مهم أو نقاش دار في العالم العربي منذ عام 1948 كان، بطريقة ما، مُهيمَناً عليه بسؤال فلسطين. وهذا ينطبق بشكل أعمق في سياق النقاشات والتنظيمات الفلسطينية.
كانت النتيجة غنية بالفعل، ففي السنوات الأخيرة، تم العمل في السياسة الفلسطينية من خلال تنظيماتٍ، من أبرزها المنظمات المرتبطة بمنظمة التحرير الفلسطينية، مثل فتح، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين (وهي منشقة عن الجبهة الشعبية)، والصاعقة (مجموعة مدعومة من سوريا)، وعدد من المجموعات الأصغر. وقد تشكلت التوجهات السياسية والفلسفية التي تربط القضايا الفلسطينية المحددة بالسياسة العربية، وسياسات العالم الثالث، واهتمامات متنوعة أخرى.
جوهر الهوية
أحياناً، تبدو السياسة الفلسطينية محيرة وغير مترابطة لأسباب سأناقشها لاحقاً، وأحياناً تكون دموية، وفي أوقات أخرى واضحة تماماً. لكن دائماً ما كان هناك إجماع مفاجئ على ضرورة تقرير المصير والاستقلال الفلسطيني، إضافة إلى سجل غير منقطع من الرفض للتنازل أو التخلي عن النضال، أو قبول الوصاية أو الاحتلال من دون احتجاج.
أكبر فصيل فلسطيني هو "فتح"، يهيمن عليه ياسر عرفات ومجموعة من الفرق التي تتوزع خطوط نفوذها وقوتها السياسية حيث تشمل إلى حد بعيد أكبر عدد من الفلسطينيين في المنفى وفي منطقة غزة والضفة الغربية. وتستند نماذج "فتح" (وبالفعل نموذج عرفات) إلى الأسس الناصرية، رغم أن "فتح" وعرفات عملا على تجنب الانخراط بشكل كبير في السياسة المحلية لأي دولة عربية معينة، باستثناء لبنان والأردن اللذين شهدا تدخلات مكلفة ولكنها إلى حد ما حتمية. وأقصد بالسياسة الناصرية هنا ليس فقط وجود رمز دائم للسلطة - الزعيم، أي عرفات، المعروف أيضاً بـ"الختيار" - والذي يضمن حضوره المستمر بقاء القضية الفلسطينية حية، بل أيضاً وجود فلسفة قومية مركزية تقود الحركة.
وهذا يعدّ عائقاً من جهة، لأنه يعني أن التنظيم السياسي يُبقي إلى الحد الأدنى، باستثناء ما يتعلق بمواجهة الصهيونية، مما يجعل من السهل التعرف على عرفات و"فتح" كقوى عربية وفلسطينية فقط. ومن جهة أخرى، فإنه مفيد لأنه أ/ يعني أن "فتح" تشجع ضمنياً ديمقراطية حقيقية في الأفكار والأسلوب السياسي، وب/ أنه لم يتمكن أحد من إثبات، رغم علاقات "فتح" مع السعودية وليبيا والاتحاد السوفيتي أو جمهورية ألمانيا الديمقراطية، أنها ليست مستقلة عنهم، ومن ثم هي قبل كل شيء فلسطينية.
والأكثر أهمية من ذلك أن "فتح" تمثل جوهر الهوية الفلسطينية المظلومة، دون أن تفرض بالضرورة على كل فلسطيني تبنّي نظرية حرب الشعب أو التحليل الطبقي.
لكن هذا ليس كل ما تمثله حركة فتح. فلدى فتح العديد من المؤيدين، وتاريخ طويل نسبياً من النضال، وموارد ضخمة (تشمل آلاف المقاتلين المدربين والضباط، وغيرهم)، وقبل كل شيء، لديها نظرة متفائلة نسبياً تجاه العالم. قد يبدو هذا الأخير تصريحاً غريباً، ولكنه يعكس الثقة والسهولة في التفاعل السياسي الفلسطيني. هناك نقاط مهمة يجب الإشارة إليها هنا.
إذا كان صحيحاً أن تاريخ السياسة الفلسطينية قد تميز بالرفض المتكرر للانخراط في المخططات، التي وضعت لفلسطين في أماكن أخرى (بدءاً من وعد بلفور، مروراً بخطة التقسيم عام 1947، وصولاً إلى كامب ديفيد)، فإن فتح أقل من غيرها من الأحزاب الفلسطينية رفضاً لمثل هذه المخططات. بمعنى آخر، وبسبب شعورها المتزايد بقوة الدعم الشعبي، تعتبر فتح أكثر المجموعات الفلسطينية احتمالية للوصول إلى تسوية سياسية مسؤولة مع خصومها. فتح وعرفات، على وجه الخصوص، يتسمان بالبراغماتية، مما يعني أنهما يخصصان وقتاً كبيراً للمناورة والتكتيك، وأقل للايدولوجيا والاستراتيجية المنظمة.
القليل هنا والقليل هناك
أبدى منافسو فتح، وخاصة الجبهة الشعبية، ومن بعدها الجبهة الشعبية الديمقراطية، وعياً أكثر تعقيداً بالمصاعب والسياق والقضايا الأيديولوجية المحيطة بالقضية الفلسطينية. فعلى سبيل المثال، دعت الجبهة الشعبية إلى ثورة عربية كوسيلة لاستعادة فلسطين، ورفضت بشكل قاطع أي تسوية سياسية "على عكس التسوية العسكرية" مع الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة، أو ما يُطلق عليه "الرجعية العربية". أما الجبهة الديمقراطية التي شكلت نواةً لأحد أبرز التكتلات الماركسية اللينينية في المنطقة، فقد اتخذت خطاً سياسياً أكثر دقة، وكانت تقليدياً في طليعة التغيير التقدمي في المواقف الفلسطينية الجماعية منذ تأسيسها في عام 1969. وكانت الجبهة الديمقراطية أول من طرح برنامجاً مرحلياً تبنته منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1974 كهدف فوري لا يصل إلى تحرير كل فلسطين، ثم نُقح البرنامج في عام 1977 ليشمل فكرة إنشاء سلطة وطنية فلسطينية "التي أصبحت لاحقاً دولة" فوق أي جزء من أرض فلسطين يتم إخلاؤه من قبل الكيان الإسرائيلي.
تتفاعل فتح بشكل إيجابي مع العالم سياسياً، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنها اندمجت في الخط الرئيس للسياسة القومية العربية الذي أسسه جمال عبد الناصر، كما أنها لم تخفِ كثيراً الطابع الثقافي السني الإسلامي التقدمي لديها.
بعبارة أخرى، تعتبر فتح نفسها تمثل أغلبية الفلسطينيين وتعتقد بحق، حسب رأيي، أنها تعبر عن القضية الفلسطينية، وهذا ما يفسر هيمنتها على منظمة التحرير الفلسطينية ككل. ولكن جزءاً كبيراً مما تمثله فتح وتدافع عنه يتحدد بشكل سلبي إلى حد ما، من خلال ما يقوله خصومها السياسيون عنها وما يدعون تقديمه للحركة الفلسطينية. لكن التحدي الحقيقي الذي يواجهه الرافضون، بما في ذلك المنظمات الصغيرة التي تمولها ليبيا والعراق، والجبهة الديمقراطية الشعبية (التي ليست مجموعة رافضة)، هو أنهم يوجهون انتقاداتهم إلى سياسة فتح التي تعتمد على الارتجال إلى حد ما، وفي بعض الحالات تتسم بطابع عائلي.
بالنسبة لهم، تتمحور الانتقادات حول الأيديولوجيا والتنظيم والاستراتيجية. إذ يطرحون أسئلة مثل: ما هي الروابط المفترضة بين منظمة التحرير الفلسطينية وكل من السعودية وسوريا؟ وكيف ينبغي أن نتعامل مع الأردن، الذي يتمتع بأغلبية سكانية فلسطينية؟ لماذا، وبأي أهداف محددة، عُقدت اجتماعات في خريف عام 1976 بين أعضاء من منظمة التحرير وبعض الشخصيات الإسرائيلية العامة؟ لماذا لم تكن هناك إدانة شاملة للسادات بعد زيارته إلى القدس؟ وما هي رؤية فتح لمستقبل المجتمع الفلسطيني؟
يتساءلون أيضاً عن غياب موقف واضح لفتح بشأن قضايا الإمبريالية، وهو موقف يحسم ويستبعد تماماً أي محاولة للتقارب مع الولايات المتحدة وحلفائها. والأهم من ذلك، يتساءلون: إلى متى يمكن للسياسة الفلسطينية، بقيادة فتح، أن تستمر في اتباع سياسة "القليل هنا والقليل هناك"؟ حيث يقول أحد القادة شيئاً، بينما يقول آخر شيئاً مختلفاً، ويتم الاعتماد على البيروقراطية والشعارات بدلاً من التنظيم الثوري ورفع الوعي، وتُستبدل الإنجازات الفعلية بالرعاية والولاءات، ويُتبع أسلوب (سر وراء القائد) بدلاً من تحقيق المساءلة الجدية".