بين الفن والتنظير

ثقافة 2024/12/08
...

 محمد طهمازي




إن الفن صيرورة من صيرورات الأزل، عايش الإنسان وعاش في روحه وأثار فيها رغبة البحث والتمرد والتحدي، في وجود كان الفن من أهم شطحاته اللذيذة التي لم ولن نتمكّن من القبض على ماهيتها، مهما حاولنا ونحاول نبش عظام الجنون الذي يسكن جوهرها، ولا ينفك يحرّض خيالاتنا ونتاجاتنا كما يحرض أسئلتنا.

علينا أن نتفق على أن البحث الفلسفي والتنظير للمشروع والحركة الفنية ليس كافيا ليجعل من صاحبه فناناً، لأنه يقدم طرحا نظرياً ورؤية واقعية أو مستقبلية للحركة الفنية والعوامل النفسية والبيئية والتاريخية المؤثرة، وما يمكن الاستعانة به من عناصر فنية، وما يجب استدعاؤه من قيم تراثية وما ينبغي تطويره أو تطويعه من مسارات معاصرة. 

لقد كان شاكر حسن آل سعيد منظراً في مجال الفن أكثر منه فناناً، ويمكننا القول من دون مجاملة أنه لم يدخل يوماً ضمن نطاق ما يمكن تسميته بفنان أو مبدع، بل إنه حاول الاستعانة بالفن التشكيلي لطرح ما يجول بفكره كمن يقدم رسوماً توضيحية لمادة علمية. 

والغريب أن أعماله بمختلف تغيراتها واجهت الإحباط في طريق الوصول لمستوى الأعمال الفنية مثلما لم تنجح في تقديم أطروحاته النظرية، ومهما قيل ويقال ممن يخوضون مضمار الكتابة الفنية عن تجربته "الفنية" لن يغير شيئاً من الحقيقة في شيء، وستبقى تنظيراتهم تلك مجرد إمعان في تسطيح فكر الرجل، الذي يختزن ويحتمل الكثير، لصالح نتاجه التشكيلي كما يسمونه وزيادة الضبابية على أطروحاته.

لقد جهد آل سعيد في عملية حقن الأفكار الصوفية في الفن، في محاولة منه لإيجاد مسار تشكيلي يمكنه أن يبدع أعمالاً فنية فيه وكانت هذه المحاولة غير مجدية، وأقصد بالنسبة له، كسابقتها كونه لا يمتلك الموهبة الحقيقية والأدوات الإبداعية والتقنية، التي يمكنها أن تنهض بمشروعه المفترض، ولا أن تعطي ولو صورة عنه توازي كل ما كتبه وكان من الأفضل له برأيي أن يكون منظراً للحركة الفنية أو للمجموعة الفنية، التي شارك فيها، وحسب وأن يوجه اعضاءها وفق خطه، كما يفعل منظر أي حركة فنية أو أدبية أو أيديولوجية.

منذ زمن بعيد وحتى يومنا هذا يتم ارتكاب أحدى أكبر الموبقات في عالم الفن، حيث يتم الخلط جهلا أو قصدا بين الفرد الموهوب وبين الفرد المحب أو الهاوي أو المتذوق أو الباحث في الفن وهذا ما ارتكبه الكثيرون والنتيجة أكداس من المزيفين، انتشروا على مساحة ميدان الفن عندنا وعند غيرنا، وما زال الزمن يتحفنا بنماذجهم حتى يومنا هذا، فما زالت سنة وأعمال من سبقوهم تشجعهم، ليزاحموا الفنانين الموهوبين وقد غطت أعمالهم "الفنية" بضجيجها على فضاءات أعمال فنية حقيقية. 

كان من الممكن أن يكون شاكر حسن آل سعيد من الباحثين والمنظرين، الذين تركوا بصمتهم المضيئة في تحديد رؤى الفن وفلسفته وخط مساراته المستقبلية لكن تطفله من دون ريب، على الفن التشكيلي بصفة فنان شوش على كتاباته بل وأبعدها عن الأضواء والتأثير لاحقا، كونه ومن كتب عنه جعل مكانته في عالم الفن متجسدة في "لوحاته" لا في كتاباته التي إما توارت في العتمة أو أسيء فهمها، حينما تم جعل أعماله تلك معبرة عنها فكان نوعا من الحرق لكتاباته، للأسف، في مرحلة كان التشكيل العراقي تحديدا بحاجة لمن ينظر له بتخصص وتفرغ.

يقول أندريه مالرو "الإنسان ليس ما يعتقد أنه عليه، إنه ما يُخفيه". ويقصد أن هناك حقيقة تقبع في اللاوعي، هي في الغالب معاكسة تماماً للظاهر الذي قد يؤمن صاحبه بأنه حقيقته، ونحن عندما نتحدث عن الفن، فنحن نتحرك في المنطقة التي يعمل فيها الفنان على إخراج ما في لاوعيه إلى العلن ليقدم الصريح الجمالي، ويعبر عن فكرته ولا فكرته، بأسلوبه الخاص وبالتي فهو يسير على طريق الحقيقة، التي لن يبلغها لكن المتعة كل المتعة في السير على طريقها المتعب والشائك.. يقول هيغل "عندما نقول إنّ الجمال فكرة، نقصد بذلك أنّ الجمال والحقيقة شيء

 واحد".